دهشة، قد يفتح أي مثقف عربي فمه، إذا علم أنه ليس في دولة الكويت وزارة للثقافة، لاسيما أن الكويت، على المستوى العربي ومن ناحية حرية الفكر والنشر، تعتبر الدولة العربية الثانية بعد لبنان، التي تنتهج النظام الديموقراطي، وقد تزداد دهشة ذلك المثقف، إذا علم أن كل النتاج الثقافي الكويتي (أدباً وفناً وثقافة)، ينطلق من عدة مكاتب صغيرة كانت ملحقة بمجلس الوزراء، أطلق عليها اسم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وإذا استثنينا مكتب الأمين العام - آن قيام المجلس - المرحوم الشاعر أحمد العدواني، ومكتب نائبه الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، ومكتب مساعده الدكتور الصديق سليمان العسكري، فإن المجلس الوطني كله بمنزلة ملحق بنائي بعضه من (الشبرات) أو البيوت الخشبية الجاهزة، وعلى الرغم من ذلك، كان المجلس يصدر أهم المطبوعات وأرخصها سعراً على النطاق العربي، التي يتلقفها القارئ العربي بكل اهتمام.

Ad

بالطبع كان ذلك على النطاق الرسمي (الحكومي)، واذكر أنني حصلت على تفرغ من عملي الرسمي في أوائل الثمانينيات بجهد من الإخوة في المجلس الوطني، وبالأخص الدكتور الصديق سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة العربي الشهيرة الآن، وأعرف ذلك الواقع بالضبط. وكان في إطار مجلس الوزراء ثمة مكتب يقبع فيه رجل واحد هو رئيس القسم الاقتصادي في ديوان ولي العهد آنذاك الصديق الرائع عيسى العصفور، وعلى الرغم من أن الصديق عيسى لا علاقة له - إدارياً - على الإطلاق بالمجلس الوطني، إلاّ أنه حقيقة، وهذه نقولها للأجيال والتاريخ، كان يمثل وزارة ثقافة لوحده - آنذاك - وربما لايزال، وقد أطلق عليه أصدقاؤه ومحبوه وزوار البلد من المثقفين العرب (وزير الثقافة الشعبي)، أما لماذا سُمي عيسى بهذا الاسم وكيف حصل على هذا (المرسوم الشعبي)، بعيداً عن الدوائر الرسمية والرسميات، فلأن عيسى في الأساس هو قارئ جيد يُخصص للقراءة الحرة أكثر من أربع ساعات في اليوم كالتزام، بينما هو في الحقيقة يمارس القراءة طوال اليوم، وقد عشق عيسى الثقافة وأحبها، إلى درجة أنه فضّلها على الزواج إن لم نقل تزوجها بالفعل - أي الثقافة - ولم يُقدم على (بلاوي) الزواج حتى اليوم، وكان (أبو عبدالله) يحرص أثناء قراءاته المتعددة أن (يقصّ) أو يصور من الصحف العربية كلها، بل والعالمية أحياناً، ناهيك عن الكتب التي تقع عليها يديه أو يرسلها له أصدقاؤه الكثر المنتشرون في بقاع العالم، ثم يحتفظ بتلك القصاصة أو الصفحة المصورة، بل حتى الكتاب المصور أحياناً، ليهديها إلى أصدقائه المثقفين حسب اهتمام كل واحد منهم (سواء كانت تلك الاهتمامات سياسية أو اقتصادية أو أدبية او فنية)، بل وكان يجمع حتى الرسوم الكاريكاتيرية والتعليقات الساخرة ليقدمها إلى أصدقائه الذين يحبون الفكاهة والمرح، وكان يدعم بالمال أصدقاءه المثقفين في أي مكان في العالم، حينما يحس أو يسمع عن حاجتهم إلى المال، وكان عيسى طيب القلب، عفيف النفس، كريم اليد، هادئ الطبع، سمح الخلق، لذلك كان يحرص أيضاً أشد الحرص على دعوة أي مثقف عربي أو عالمي يزور الكويت، ويتيح للعديد من مثقفي الكويت اللقاء بذلك الرمز الثقافي ليناقشوه ويحاوروه، أما في فصلي الشتاء والربيع فيقيم عيسى العصفور مخيماً في برّ مشرف، يجتمع فيه نهاية الاسبوع أغلب فناني ومثقفي ومبدعي الكويت، وكان لا يجامل أحداً في النقد والرأي حتى ولو كان أقرب الناس إليه.

وسنُكمل الأحد القادم...