سينعم الإعلاميون بعقود عمل مغرية في عقود قليلة مقبلة، ثم سيأفل عهدهم، وتنتهي الحاجة إليهم، وسيصنع الناس إعلامهم بأنفسهم؛ فالزمن بينما يتقدم يعود أيضاً إلى الوراء. ولا عزاء للإعلامي المحترف!«محمد أفندي عز العرب، الموظف بوزارة الأشغال، والجالس الآن على مقهى البسفور في الحسينية، السيدة المحترمة زوجتك تطلب إليك العودة إلى المنزل، لأن ضيوفاً من البلد وصلوا تواً». من سيصدق أن العبارة السابقة رددها مذيع في الإذاعة يوماً، بناء على طلب السيدة حرم محمد أفندي؟
نعم كانت مثل هذه العبارات تذاع على الأثير، مع نشأة الإذاعة الأهلية في مصر، في آواخر العشرينيات من القرن المنصرم؛ إذ اعتمدت المحطات الإذاعية، الباحثة عن الربح وجذب الجمهور بأي وسيلة من الوسائل، سياسة تلبية طلبات المشتركين أياً كانت، ومن ضمن تلك الطلبات تبادل الرسائل بين الأزواج وعبارات الحب والعتاب بين الأصدقاء والمحبين.
ولأن السلطات لم تقنن أوضاع تلك المحطات؛ في ظل نشاط إذاعي مستحدث، ومُشرع لم ينل الوقت اللازم لضبط أحواله، فإن مهازل عديدة حدثت على أثير البث المنفلت بلا ضابط أو تشريع صارم أو قواعد عمل احترافية أو مواثيق مهنية معيارية. وأبسط المهازل وأقلها ضرراً، كان تبادل المطربين الشتائم والتجريح على مسامع الجمهور؛ فضلاً عن تأجير أو تحريض بعض هؤلاء لأنصارهم ليواصلوا طلب أغنياتهم، بما يوحي بأن مكانتهم بين الجمهور في ارتفاع. لكن الطامة الكبرى حدثت حين استغل خارجون عن القانون، ومهربو مخدرات خصوصاً، تلك الإذاعات في تبادل الرسائل التي تيسر لهم تنفيذ أنشطتهم الإجرامية بعيداً عن أعين الشرطة. ومن هذا أن لاحظت وزارة الداخلية في هذا الوقت أن بعض المستمعين يطلب سماع أغنية «الجو غيم»، حين يريد أحد أفراد تنظيم إجرامي تنبيه زملائه إلى أن الشرطة تضيق الخناق عليهم، فيلتزموا الكُمون، ويحجموا عن تسليم «البضاعة» أو تسلمها. وفي المقابل، يطلب أحد المستمعين من مشتركي الإذاعة سماع أغنية «الجو رايق»، ما يعني أن زملاءه يمكنهم الآن التحرك لتصريف المخدرات التي بحوزتهم.
وكان هذا الاستخدام المبتذل والمسف، والإجرامي أحياناً، لأنشطة بعض هذه الإذاعات داعياً إلى الإسراع في سن القوانين الملائمة لتنظيم البث الإذاعي، وهو الأمر الذي أخذ اتجاهه على مدى القرن نفسه، حتى وصلت الأمور إلى السيطرة الكاملة للأجهزة الحكومية على محتوى البث، فضلاً عن احتكار الدولة له جملة وتفصيلاً، في رد فعل عكسي أثمر بصرامته سلبيات ربما لا تقل عن تلك التي أنتجها الانفلات.
هكذا بدأت وسائل الإعلام عموماً في عالمنا... تعبيرات اجتماعية-اقتصادية-سياسية غير مقننة عن قوى مجتمعية أو مصالح، بلا قواعد مؤسسية أو ضوابط أو احتراف، وإلى هذا أيضاً يبدو أنها ستؤول.
فمراكز البحوث الإعلامية في الغرب تقدر أن التعبيرات الإعلامية الصادرة عن كيانات غير مؤسسية أو مُشهرة (أفرادا أو جماعات من دون تنظيم)؛ مثل المدونات والرسائل والصور المتبادلة بين جماعات على الإنترنت، تنمو بمعدل يفوق ذلك الذي تنمو به وسائل الإعلام المنظمة.
وفي عالمنا العربي يبدو أن نشاط المدونات ينمو باطراد، وأن جمهورها يزيد بوتيرة مرتفعة، وأن الموضوعات التي تتناولها تتسع لتشمل طيفاً عريضاً من الاهتمامات، لا يقتصر على الفن والمنوعات والثقافة وفنون البوح الشخصي فقط، ولكنه يمتد ليشمل الانشغالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وعلى عكس الانحدار الذي ميّز مسار الإذاعات الأهلية عند نشأتها، فإن المدونات تبدو في طريقها إلى فرز صحي، يزيح الضحل والمنحدر لمصلحة الأكثر انضباطاً ورصانة.
ولا يبدو أن الأمر بات يقتصر على التعبيرات الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية وحدها؛ فخلال العام الحالي ظهرت ظاهرة غريبة تستحق الوقوف عندها ودرسها بروية؛ فقد شهدت قرى عديدة في دلتا وادي النيل بمصر تحديداً نشاطاً إعلامياً خاصاً في غاية الغرابة. إذ أنشأ بعض الشبان، وأغلبهم من العاطلين عن العمل، محطات تليفزيونية محدودة البث، بحيث لا تشاهد إلا داخل القرية فقط، وبالكاد في قرى محدودة جوارها.
وبتقنية بسيطة جداً، وتكاليف لا تتعدى عشرات الدولارات، أمكن لهؤلاء الشبان امتلاك وإطلاق قنواتهم التلفزيونية التي تبث أخبار القرية على مدار الساعة، وتهتم فقط بموضوعات من عينة؛ وفاة أحد الجيران، وزواج ابنة آخر، والتحاق أحد أفراد القرية بالخدمة العسكرية، فضلاً عن أسعار المواد الغذائية والأسمدة وغيرها، وتوافر الزيت من عدمه لدى البقال التمويني.
تذيع تلك المحطات أيضاً أفلاماً ومسرحيات مسجلة بناء على طلب الجماهير، أو تبث فرحاً من أفراح القرية تم تصويره بكاميرا فيديو، وتشعل المشادات بين مشجعي فرق الكرة بإعادة مباريات بعينها، لقاء رسوم بسيطة تراوح بين الدولار والدولارين.
ليست هذه بدعة خالصة هنا، فقد أذاعت إحدى الفضائيات الفرنسية فيلماً عن «إعلام أواسط القرن الحادي والعشرين»، وأظهر هذا الفيلم أن خمسين سنة فقط، وربما أقل، تفصلنا عن إعلام لا يحده ضابط، ولا يعمل به محترف.
فقط هو الجمهور الذي سيصنع وسيلته ورسالته الإعلامية ويبثها بأرخص التكاليف، وفقط هو الجمهور الذي سيشاهد ويراقب، في غياب السلطة والتشريع والتقنين والمخاطر والقيود بكاملها.
لا يبدو أن هذا محض خيال علمي، أو تنبؤات غارقة بالوهم، ولا هو تفكير بالتمني، إنه على الأرجح ما سيحدث. نحن اليوم نلغي وزارات الإعلام، ومكاتب الإعلام الخارجي والداخلي، ونطلق حرية إصدار الصحف، ونتيح البث إذاعياً وتلفزيونياً، والناس تنصرف إلى المدونات، والإنترنت، والتعبير الأكثر حرية.
سينعم الإعلاميون بعقود عمل مغرية في عقود قليلة مقبلة، ثم سيأفل عهدهم، وتنتهي الحاجة إليهم، وسيصنع الناس إعلامهم بأنفسهم؛ فالزمن بينما يتقدم يعود أيضاً إلى الوراء. ولا عزاء للإعلامي المحترف.
* كاتب مصري