...وشهد شاهد من أهله
كتاب «حرب الثلاثة تريليونات دولار»، سيجعل الحزب الديموقراطي ينتظر نهاية انتخابات الرئاسة للبدء في حملة التحقيقات، التي يرجح أن تطول رؤوساً كبيرة في الإدارة الحالية، ولعل استقالات الضباط ترجع إلى أنهم لا يريدون أن يكونوا جزءاً من «الفضائح» التي سيكشف الكتاب الستار عنها.
غزو الولايات المتحدة للعراق صار عمره 6 سنوات، بدأ في شهر مارس 2003 ولم ينته بعد، في بداية الغزو وقف الرئيس بوش على رأس طابور من المطبّلين والمزمّرين، اميركيين واوروبيين وعراقيين ويعربيين، لينشدوا معزوفة ذات نغم واحد عنوانها وفحواها ان الاستقرار والامن والطمأنينة والسعادة والرفاهية والديموقراطية والسلام ستعم ارض الرافدين، ومن ثم ربوع المنطقة برمتها، في مدة اقصاها ستة اشهر تبدأ من يوم الغزو. ومضت هذه السنوات الست، متكاسلة حملت في طياتها ينابيع دماء لا تنضب، بينما انشودة السلام بقيت فارغة المعنى، والادارة الاميركية وكل الذين طبّلوا لها وزمّروا مازالوا الى اللحظة يفتشون عن بصيص الضوء في آخر النفق، ولم يعثروا عليه.شهاداتنا، وربما شهادات الآخرين، على صحة هذا الزعم تأتي مبتورة ومشكوك بها، لكن ما رأيكم بشهادة جديدة من اهل البيت الاميركي؟في شهر ابريل القادم سيصدر كتاب يحمل الرقم المئة بعد الف كتاب، تحتوي كلها على: شهد شاهد من اهله. الكتاب بعنوان «حرب الثلاثة تريليونات دولار». كتبه جوزف ستكلتز وليندا بيلميز Joseph E. Stiglitz and Linda Belmes. الاول هو اقتصادي مرشح لجائزة «نوبل» واستاذ في جامعة كولومبيا. وكان رئيس فريق المستشارين الاقتصاديين في عهد الرئيس السابق كلينتون، والثانية استاذة في جامعة هارفارد في كلية كينيدي للعلوم الحكومية. ومن المتوقع ان يحدث هذا الكتاب المليء بالحقائق والارقام ضجيجاً واسعاً في اروقة العاملين في الحقلين السياسي والاقتصادي الاميركيين.هذا الكتاب يبدأ بمقدمة سياسية تشير الى ان ادارة بوش كانت مخطئة بزعمها ان الحرب ستمنح العراق والمنطقة وبالتالي الولايات المتحدة فوائد كثيرة، كما ان ادارة بوش اخطأت في حساباتها الرقمية بشأن تكلفة هذه الحرب. ففي بداية الاستعداد لدخول الحرب، قال «وليم ليندسي» مستشار بوش الاقتصادي ان الحرب ستكلف نحو 200 بليون دولار، وفي اجتماع حضره وزير الدفاع آنذاك رونالد رامسفيلد، وصف هذا الرقم بالمبالغ به جداً، بينما قال سكرتيره بول ولفوويتر ان اعادة تعمير العراق بعد تدميره ستأتي من زيادة مداخيله النفطية بشكل لا يكلف الخزينة الاميركية دولاراً واحداً، اما «ميتش دانيلز» مدير الموازنة فكان اكثر «تفاؤلاً» عندما قال ان تكاليف الحرب كلها تتراوح من 50 الى 60 بليون دولار، وان معظم هذه النفقات سيدفعها الحلفاء الذين سيشاركون في الحرب. يقول الكتاب: ان تقديرات الادارة كانت خطأ ومنخفضة منذ البداية، والسبب هو قصر نظر هذه الادارة في كل شؤون الحرب واعتمادها على انها ستكون حرباً صاعقة وقصيرة، لكن، وبعد عدة اشهر من الحرب، سرعان ما وقعت الادارة في مدار قصر نظرها، فتحولت التكاليف من 50 الى 60 بليونا الى نحو 600 بليون، غير ان هذا الرقم المبني ايضاً على وهم الانتصار السريع كان خطأ. ان الحسابات الدقيقة التي اجريناها تشير الى ان نفقات الحرب في العراق، في حال انتهائها هذه السنة، سوف تفوق 3 تريليونات دولار (اي 3 آلاف بليون دولار).ويتساءل الكتاب عن اسباب هذا الفارق الكبير بين تقديرات الحكومة وبين تقديرات الكاتبين فيجيب: ان السبب الاكبر هو ان الادارة الفدرالية تلاعبت في تقديراتها بالاسلوب العلمي المتبع في ميزان المدفوعات، بشكل اعتمدت فيه على «تهريب» اعتمادات مالية الى وزارات لا علاقة لها بالحرب، وكانت تتصرف بهذه الاعتمادات لاغراض الحرب، وهذا مخالف لكل القوانين الفدرالية، وقد يستلزم، في ما بعد، تحقيقات واسعة تصل الى العقوبات الجنائية، لكن غاية الادارة، في اعتمادها هذا الاسلوب الخطأ غير القانوني، كان اخفاء حقيقة المبالغ المصروفة عن اعضاء «الكونغرس» وعن الاعلام، وبالتالي عن دافعي الضرائب.ويذكر الكتاب بتفصيل كيف كانت الاعتمادات غير الحربية تنقل وتصرف على الحرب، وبعض هذه الاعتمادات كانت تنقل الى حساب مؤسسات خاصة، لاخفاء مصادر صرفها على شؤون الحرب، ويعطي الكتاب عدة امثلة على ذلك فيذكر ان عدد الجنود الاميركيين الذين قاتلوا في العراق وفي افغانستان بلغ الى الآن مليون و600 الف جندي، وقد قتل منهم اكثر من اربعة آلاف جندي، اما الجرحى فقد بلغ عددهم نحو 65 الف جندي، وقد سرح نحو 750 الف جندي من الخدمة و260 الفاً منهم عولجوا في مستشفيات الجيش، ونحو 100 الف اصيبوا بأمراض عصبية وعقلية وسرحوا نهائياً من الخدمة.بعض المؤسسات الصحية المكلفة بمعالجة الجنود، اعلنت عجزها عن القيام بمهماتها نظراً لفقدان الاعتمادات، وفي حالات معينة وجدت هذه المستشفيات نفسها غير قادرة على تعيين الاطباء والممرضات للقيام بواجبهم الطبي نظراً لعدم وجود الاعتمادات المالية الكافية، ولهذا فإن الجندي المصاب عليه ان ينتظر 30 يوماً ليأتي دوره في المعالجة. وذكرت دراسة حكومية رسمية ان واحداً من اسباب هذا العجز هو «اخفاء» عدد المصابين في الحرب، واعطاء ارقام غير صحيحة، مما احدث بلبلة في الجسم الحكومي الصحي الرسمي بين العدد الحقيقي للجنود المصابين الذين يحتاجون الى المعالجة السريعة، وبين بيانات «البنتاغون» المخفضة، مما جعل استعداد المستشفيات ادنى بكثير مما هو مطلوب. ان «البنتاغون» مازال يخفي عدد جرحى جنوده، ويعتبر ذلك سراً من الاسرار، كذلك هناك عملية اخفاء القتلى ايضاً، و«البنتاغون» يعتمد اسلوباً غير شريف في عملية احصاء الضحايا، فهناك قتلى وجرحى المعارك، وهناك قتلى وجرجى الحوادث غير الحربية، ومن خلال تدقيق البيانات تظهر الحقيقة، وهي انه في حالات عديدة، فإن قتلى وجرحى المعارك يسجلون في خانة قتلى وجرحى الحوادث غير القتالية، وهذا في حد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون الجزائي.الكتاب مليء بالارقام والبيانات، خاصة بشأن كيفية صرف الاعتمادات المالية، والحقائق التي يذكرها سوف تحتاج الى لجان تحقيق عديدة، والحزب الديموقراطي ينتظر نهاية انتخابات الرئاسة للبدء بحملة التحقيقات هذه، التي يرجح ان تطول رؤوساً كبيرة في الادارة الحالية، كذلك هناك ظاهرة شبه سرية بدأت تظهر الى العلن، ففي كل يوم تقريباً، تُُعلن استقالة ضابط كبير، ولعل هذه الاستقالات ترجع الى ان هؤلاء الضباط لا يريدون ان يكونوا جزءا من تلك «الفضائح» عندما يُكشف الستار عنها.خلاصة ما يشير اليه الكتاب من دون ان يقوله علناً، ان فتح ملفات الحرب على العراق سوف تشكل اكبر فضيحة سياسية ومالية وانسانية شهدتها الولايات المتحدة منذ تأسيسها. * كاتب لبناني