الشتاء

نشر في 25-01-2008
آخر تحديث 25-01-2008 | 00:00
 محمد سليمان

الشتاء يلم شمل العائلة، برده القارس يخلي شوارع المدن والقرى ليلاً ويجبر الناس على البقاء في المنازل، ثم الانشغال بالحكايات والمسلسلات وتذكر الغائبين واستعادة الألفة والمودة وترميم العلاقات، لذلك ولأسباب عديدة أخرى أعشق الشتاء وأنتظره وأحتفي به.

«في الصيف يأتي الحر والحشرات والفوضى، ولا تأتي القصائد» أقول في قصيدة لي، ولذلك فأنا من عشاق الشتاء، أحب برده الذي ينعش ويجدّد الطاقة ويفجّر النشاط، ومطره الذي يغسل البيوت والشجر والشوارع، ويناير هو قلب الشتاء وصرّته، أستجمع فيه طاقاتي ومرحي وقدرتي على الكتابة والتذكر أيضاً.

في يناير 1918 ولد جمال عبدالناصر الذي كان أباً لأحلام صبانا، والذي فتح لنا الأبواب كلها وألبسنا ملابس الكبار، لأنه كان يرانا بعين حلمه أكبر وأعظم وأقوى، كل أبناء جيلي مدينون لعبدالناصر وأحلامه الهائلة التي كانت أكبر من قدراتنا وطاقاتنا، وأهم أسباب رحيله المبكر التي أعطت خلفاءه درساً لم ينسوه أبداً فأقلعوا عن الأحلام ومراجعة الخرائط والتفكير في المستقبل، ولكي يتجنبوا مصيره اختاروا لنا ولأنفسهم ملابس الصغار والأقزام، فأهانوا أنفسهم وأهانونا وعادوا بنا إلى عصور الظلام والانحطاط والتشظّي.

في يناير 1977 انفجرت انتفاضة الخبز بسبب ارتفاع الأسعار وتردي الأحوال الاقتصادية وسياسات الانفتاح، وصدر قرار حظر التجول، واستعان السادات بالجيش لمواجهتها وقمعها بعد أن منحها اسم انتفاضة الحرامية، ولم تهدأ الأمور إلا بعد إلغاء القرارات الاقتصادية التي ألهبت غضب الناس ودفعت بهم إلى الشوارع في معظم المدن المصرية، وكالمعتاد اتّهم السادات القوميين والناصريين واليساريين بقيادة الانتفاضة والتخطيط لها، وزجّ المئات منهم في السجون، وأظنّنا الآن على حافة انتفاضة أخرى أوسع وأعمق بسبب الفساد والغلاء والاحتكار والاستبداد والبطالة واتساع رقعة العوز والفاقة.

في يناير من كل عام يفتتح معرض القاهرة الدولي للكتاب فتتاح لنا الفرص لاكتشاف واقتناء الجديد ومتابعة حركة الإبداع العربي والعالمي، وأيضاً لقاء أصدقائنا الكتّاب العرب والمصريين المشاركين في الأمسيات الشعرية واللقاءات الفكرية والسياسية، لكن أحداث يناير 1985 مازالت حية ومتوهّجة، فقد كان الإسرائيليون يحاولون الاشتراك بجناح لهم ضد رغبة جماهير المثقفين والكتّاب وخوفاً من اندلاع المظاهرات بعد افتتاح المعرض اعتقلت السلطات عدداً من الشعراء والكتّاب والصحافيين، كنت واحداً منهم بتهمة ازدراء النظام والسعي إلى تغييره.

وأعترف الآن أن التهمة التي وجهها إليّ المحققون في ذلك الشتاء البعيد، وهي التخطيط لاحتلال القاهرة والمدن الكبرى بجيوش أعدّها في القرى كانت تهمة شعرية مغرقة في الخيال وتليق بي، وأعترف أنني شعرت في ذلك الشتاء بقدر هائل من الزهو والاعتداد بالنفس بعد أن وضعتني السلطات مع العمالقة؛ نابليون وجنكيز خان وهولاكو وغيرهم، لكنّ محكمة أمن الدولة استكثرت عليّ كل هذا الزهو فأصدرت في مارس 1985 حكماً بإطلاق سراحنا وإلقائنا في الشوارع، ويبدو أنّ رجال أمن الدولة يصدقون المقاطع الشعرية الساخرة المنشورة في الصحف والمجلات التي أتحدّث فيها عن صباي وقدومي من القرية لمحاصرة القاهرة واحتلالها:

«أنا الذي أتيتُ مثل جرةٍ

في الباص

كي أحتل شارع المُعزّ

والتحرير والميدان والأوبرا

وكي أعود كالملوك سالماً وغانماً

وآسراً بحوراً»

في يناير 1990 رحل الصديق القاص والروائي عبدالحكيم قاسم أحد أبرز كتّاب الستينيات، الذي كتب «أيام الإنسان السبعة- قدر الغرف المقبضة- المهدي- الأخت لأب- طرف من سيرة الآخرة» والذي تجاهلته الحركة النقدية ولم تفكر مجلة ثقافية في إعداد ملف نقدي عنه أو إحياء ذكراه، ومازلت أذكر قوله لي والدموع تلمع في عينيه «كل ما كُتب عن أعمالي لا يتجاوز سبع مقالات» وأظنّ أن سفره وإقامته في ألمانيا بعد صدور أول أعماله «أيام الإنسان السبعة» كانا أحد أسباب هذا التجاهل، خصوصاً أن عمله الثاني لم ينشر إلا بعد عودته النهائية، ولأنه أيضاً ظل حتى وفاته يحارب الشللية والمجاملات النقدية.

الشتاء يلم شمل العائلة، برده القارس يخلي شوارع المدن والقرى ليلاً ويجبر الناس على البقاء في المنازل، ثم الانشغال بالحكايات والمسلسلات وتذكر الغائبين واستعادة الألفة والمودة وترميم العلاقات، لذلك ولأسباب عديدة أخرى أعشق الشتاء وأنتظره وأحتفي به.

«قل الخريف غاص في البعيد

مثل ثعلبٍ وفر

وحطت الغيوم كاليمام فوق دورنا

وقل تقاعد الجنون والدخان والفوضى

هل تحتفي مثلي بعودة الشتا؟

أم تعشق الغبار والدخان

والحرائق التي تشب في العيون

أو تهب من دفاتر الموتى؟»

* كاتب وشاعر مصري

back to top