كيف يُفسَّر القرآن؟
يقوم منهج التفسير الجديد على أربع قواعد: الأولى هي البداية بالشعور أو الوجدان أو اللحظة أو الوقت، والثانية رصد حاجات الناس ومصالح الأمة كواقع إحصائي، والثالثة علاقة الذات بالموضوع والتفاعل بين الشعور والواقع، والأخيرة هي التجربة المشتركة مع القارئ وإشراكه في التفسير بما يحقق أمنياته، ويقضي على حرمانه، وينهي سلبيته.
ليس اليسار الإسلامي فقط اتجاهاً فكرياً إسلامياً اجتماعياً سياسياً تقدمياً يجمع بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد مثل كل الحركات الإصلاحية، بل هو أيضاً نظرية أو منهج في التفسير يجمع بين النص والمصلحة، بين مقاصد الشريعة المستقرأة من الأصول وتفعيلها في الواقع المعاش في الزمان والمكان، وقد كان تقدم العلم باستمرار في اكتشاف المناهج أكثر من معرفة الموضوعات، فالموضوع نفسه منهج، وليس فقط بنية، والحياة نفسها منهج وليست فقط تجربة معاشة، والعالم كله منهج وليس فقط نسقاً أو نظرية. وهو ليس منهجاً جديداً، بل يضم معظم مناهج التفسير السابقة ويعيد استخدامها كأجزاء من منهج كلي أشمل، فهو يضم المنهج التاريخي الذي يَعتبِر النص مصدراً للمعلومات التاريخية يستقيها من خارجه، ومعظمها من تاريخ الأديان السابقة في شبه الجزيرة العربية والإسرائيليات، لذلك ارتبط بعلم التاريخ، وكان المفسرون الأوائل مؤرخين مثل الطبري وابن كثير. لا يُستعمل التاريخ إلا بقدر معرفة أسباب النزول وسياق الآيات، والناسخ والمنسوخ وتطور الأحكام الشرعية في الزمان وطبقاً لتغير الظروف والأحوال لِقَدّ النص على الواقع، والحكم الشرعي على الطاقة.ويضم المنهجَ اللغويَّ... ليس من حيث الإعراب كالزجاج، فليست اللغة غاية في ذاتها، وليس القرآن كتاباً للإعراب لاختبار قواعد النحو ورصد الاستثناءات، بل تستعمل اللغة من خلال تحليل المضمون لمعرفة دلالتها على المعاني، وكما هي الحال في فلسفة اللغة، دلالة الأسماء والأفعال والحروف والضمائر والإضافة، والفاعل والمفعول بأنواعه المختلفة، والمعرفة والنكرة، والشرط والمشروط، وأقسام الكلام، الخبر والإنشاء والمنادى والاستفهام.كما يحتوي على المنهج الفقهي ليس لتجميع الأحكام الشرعية كما هي الحال في علم الفقه حول محاور رئيسة، العبادات والمعاملات، بل لمعرفة مقاصد الأحكام وغاياتها، والحكمة منها والباعث عليها باعتبارها معايير للسلوك بعيداً عن الطابع التشريعي الصوري للفقه، الأوامر والنواهي، كأن الإنسان مجرد آلة للتنفيذ بصرف النظر عن مشاعره ورغباته وميوله وبواعثه وحريته في الاختيار.ويتضمن أيضاً التفسير الكلامي العقائدي الذي يعرِض لأصول العقيدة أو قواعد العقائد، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، كما يفعل التفسيرات الكلامية مثل الزمخشري والدخول في عقائد الفرق، دفاعاً عن فرقة أو نقداً لفرقة أخرى، معتزلة أو أشعرية، سنّية أو شيعيّة أو خارجية، فالعقائد ليست أشياء، بل هي بواعث على السلوك، وليست موضوعاً للجدل العقلي بشأن تصورات تقوم على التنزيه أو التشبيه وأحياناً التجسيم، بل هي تحليل لأعماق النفس البشرية لمعرفة بواعث السلوك، فالعقائد تمثل تصورات عامة للحياة، للإنسان والمجتمع، للفرد والجماعة كما تفعل الأيديولوجيات الحديثة، تُستنبَط منها نُظم سياسية واجتماعية واقتصادية، وهي معنى العبارة الشهيرة «الإسلام عقيدة وشريعة».كما يحتوي على التفسيرات الفلسفية مثل الرازي دون الإيغال فيها حتى لا يبعد النظر عن العمل، وقد تغيرت الفلسفة من الفلسفة اليونانية القديمة التي تمت فيها التفسيرات الفلسفية الأولى إلى الفلسفة الحديثة التي مازالت خارج التفسير، باستثناء بعض النظرات هنا أو هناك في بعض التفسيرات الحديثة كمعلومات أو اكتشافات جديدة لاسيما في العلوم الطبيعية، ومن هنا خرجت معظم التفسيرات العلمية للقرآن، فيكفي أن يكون الإنسان في المجتمع وفي العالم وفي التاريخ. كما يتضمن التفسيرات الصوفية التي تقوم على التمييز بين الظاهر والباطن، بين الشريعة والحقيقة والطريقة، بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب من دون إيغال في الباطنية، بل بالعودة إلى العالم من جديد، فقد كان التصوّف حركةَ مقاومة سلبية ضد مظاهر البذخ والترف والتكالب على الدنيا والصراع حول السلطة السياسية واستشهاد أئمة آل البيت ضد الأموية للعودة إلى الشرعية وأصول البيعة القائمة على العقد والشورى والاختيار.تفسير اليسار الإسلامي هو استئناف للتفسيرات المعاصرة السياسية مثل «ترجمان القرآن» للمودودي، والاجتماعية مثل «تفسير المنار» للإمامين محمد عبده ورشيد رضا، والأدبية مثل «في ظلال القرآن» لسيد قطب، وهو ليس تفسيراً طائفياً لنصرة فرقة على فرقة في العقيدة أو في السياسة، بل هو تفسير يجمع شتات الأمة دفاعاً عن وحدة عقيدتها واطّراد مصالحها العامة.ويقوم منهج التفسير الجديد على أربع قواعد أسوة بقواعد المنهج عند ديكارت أو بيكون:1 - البداية بالشعور أو بالوجدان أو اللحظة أو الوقت بتعبير الصوفية أو العصر بتعبير الإصلاحيين، وهي لحظة الانفعال الحالية، ما يشعر به الناس سواء على مستوى الشعور أو اللاشعور، والشعور أخص من الإنسان. هو إحساسات الإنسان ومشاعره التي يصورها الأديب ويعبر عنها المفكر والفنان. «استفت قلبك وإن أفتوك».2 - رصد حاجات الناس ومصالح الأمة كواقع إحصائي، من يملك ماذا؟ ومن يستهلك ماذا؟ ومن يسيطر على ماذا؟ ومن يقهر من؟ فلماذا يبعد الدين عن الحياة ولا يلبي القرآن المطالب الرئيسة للعصر؟ إن الحرمان الذي يعيشه الناس من عدم إشباع الحاجات الأساسية، الخبز الصحي، والماء النقي، والإسكان الكريم، واللباس العفيف، والصرف الصحي، والعلاج المجاني، والتعليم القويم هي مادة التفسير الأولى. فالواقع قلب النص وبؤرته الأولى. الواقع مادة والنص صورة. ومهمة المفسر وضع المادة في الصورة لتشكيلها وتحقيقها.3 - إذا كان الشعور، القاعدة الأولى، والواقع الإحصائي الذى يكشف عن حاجات الناس هو موضوع القاعدة الثانية فإن علاقة الذات بالموضوع والتفاعل بين الشعور والواقع هي القاعدة الثالثة. ويعنى ذلك تحويل هذا التفاعل إلى مشروع أو رؤية أو برنامج عمل. وتتكون عناصر هذا البرنامج طبقا لما سُمى فقه الأولويات: الأرض نظرا للاحتلال- احتلال الأرض، والتنمية، والصحراء القاحلة؛ والأمة دفاعا عن وحدتها ضد التجزئة والطائفية والعرقية والقبلية والعشائرية؛ والفقر ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء- وضرورة إعادة توزيع الدخل، ووضع سياسة جديدة للأجور طبقا لقيمة العمل وحده؛ وقول الحق فى مواجهة السلطان الجائر ضد القهر وثقافة السلطان والفراعنة الجدد؛ والشورى والديموقراطية ضد نظم الحكم التسلطية؛ والتقدم ضد التخلف؛ والإصلاح ضد الإفساد؛ والمبادرة الحرة والخيال السياسى ضد السكون والعجز والتبعية والملل السياسى.4 - التجربة المشتركة مع القارئ وإشراكه في التفسير إلى أي حد يعبر عن حاجاته ويلبي مطالبه، ويحقق أمنياته، ويقضي على حرمانه، وينهي سلبيته، ويشركه في إعادة بناء ثقافته الوطنية، وإعادة تفسير كتابه، إلى أي حد يعبر التفسير الجديد عما يجيش في صدره، وما يخاف من الكشف عنه للقضاء على ازدواجية الخطاب والشخصية والفصام بين القول والعمل، دفاعاً عن الصدق في القول والإخلاص في العمل؟ فإذا وعى القراء فإنهم يتحولون إلى وعي جمعي وكتلة تاريخية تساهم في عملية التغير الاجتماعي، وتشارك في صنع التقدم التاريخي، وبالتالي تتحرك الأمة، وتعود إلى مسارها في التاريخ لتنهض في دورة حضارية ثانية، تنهي بها عصرها الوسيط، وتبدأ بها عصورها الحديثة.* كاتب ومفكر عربي