حدود التنازل

نشر في 11-08-2007
آخر تحديث 11-08-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

إن أي تنازلات فلسطينية ضرورية للحصول على مكاسب جوهرية ولنجاح المفاوضات، يجب ألا تجحف حق الفلسطينيين في إعادة التفاوض في وقت لاحق لاستكمال الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القرارات الدولية والعربية.

تقول قصة توراتية مسلية وذائعة الصيت أن فلاحاً كان يعيش مع أسرته الكبيرة في منزل ضيق، فذهب إلى الكاهن ليشكو إليه، فأمره الكاهن بأن يأخذ معه بضعة حيوانات أليفة لتشاركه في المنزل، فلما فعلها الفلاح عاد إلى الكاهن ليشكو إليه أن المنزل ضاق أكثر فأمره بأن يأخذ معه عدة حيوانات أليفة إضافية لتعيش معه... وهكذا حتى ضج الرجل وعاد في المرة الأخيرة إلى الكاهن الذي استعاد حيواناته الأليفة، ولما عاد اليه الفلاح سأله الكاهن كيف يشعر الآن، فعبر الفلاح عن سعادته الغامرة بأن صار يعيش مع أسرته وحدها في المنزل.

أظن أن اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بالعودة إلى التفاوض حول «إعلان مبادئ» مع الرئيس الفلسطيني أبو مازن قبل أن يذهبا معاً إلى الولايات المتحدة لاستكمال التفاوض في إطار دولي في سبتمبر المقبل هي تقليد غير مسل لهذه القصة.

مضاعفة الألم

إذا كان الأصل في إعلان أوسلو عام 1993 أنه «إعلان مبادئ». ولم تطبق إسرائيل التزاماتها وفقا لهذا الاتفاق. وبدأت بعد توقيعه مباشرة تضيف على كاهل الفلسطينيين التزامات جديدة، وخاصة في «اتفاق باريس» بخصوص المجال الاقتصادي والموقع عام 1995. وبعد سلسلة من الأزمات بدأت مفاوضات «كامب ديفيد» الثانية في صيف عام 2000، وكادت تنتهي بالاعتراف بمطالب فلسطينية جوهرية. ويقول دينيس روس المنسق الأميركي للمفاوضات في مذكراته إن باراك عرض على الفلسطينيين الانسحاب من %98 من الأرض المحتلة عام 1967 ومبادلة الجزء المتبقي بمساحة من النقب، وعودة معظم القدس الشرقية باستثناء الحي اليهودي. ومع استكمال المفاوضات في طابا حتى قرب نهاية يناير 2001 كانت هناك بداية اتفاق حول عودة أعداد من اللاجئين الفلسطينيين، وإن كان من دون أن تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن محنتهم، كما طالب عرفات.

كانت المفاوضات تقترب من أن تكلل بنجاح عندما ترك الرئيس الأميركي بيل كلينتون البيت الأبيض وفقد باراك منصبه في الانتخابات التي جاءت بشارون وتطورت الانتفاضة.

ما قام به الكاهن في القصة التوراتية قام به باراك ثم شارون وأولمرت. استخدمت إسرائيل أكبر قدر من القسوة الإجرامية خلال ست سنوات هي عمر الانتفاضة الثانية لتقنع الفلسطينيين بأن ما كان معروضاً عليهم في «كامب ديفيد» الثانية، هو أقصى ما يجب أن يحلموا به. الفارق أن الكاهن لم يصل به الأمر إلى طرد الفلاح من منزله أو مصادرة إحدى الحجرات، كما ينوي أولمرت.

اليأس الفلسطيني

وبالفعل، فإن أغلبية الفلسطينيين يشعرون الآن بأنه يجب أن تكون لهم دولة ما، حتى لو اضطروا إلى تقديم تنازلات. وساهم في هذا الاتجاه النزولي في الموقف الفلسطيني حجم المعاناة المذهلة التي عاشوها في ظل الاحتلال، خاصة خلال سني حكم شارون وأولمرت، وهبوط الدعم العربي والإسناد الدولي وتخلي الجميع تقريبا عنهم، إضافة إلى النتائج المريعة نفسياً وسياسياً لانقلاب «حماس» الأخير في غزة.

ومن الواضح أن موازين القوى قد انهارت ضد مصلحة الفلسطينيين، وأن الأميركيين والإسرائيليين قد «اصطادوا» الشعب الفلسطيني وأبو مازن شخصياً في لحظة ضعف مميزة للغاية حتى بالمقارنة بكل ما مر بهم من محن.

ومن المنطقي توقع أن أبو مازن سوف يقدم تنازلات مهمة في المفاوضات بشأن إعلان المبادئ. وهو كان قد وقع أكثر من وثيقة في إطار ما يسمى مفاوضات المسار الثاني (أي غير الرسمي) تشمل تنازلات خطيرة في ما يتصل بحق العودة، بل وبالقدس ذاتها. وربما يشعر ابو مازن الآن أن الوقت قد أزف لحسم الحيرة في العقل السياسي الفلسطيني، منتهزاً فرصة اليأس التي دهمت الشعب كله بعد انفجار الصراع بين «فتح» و«حماس» في يونيو الماضي. بل ربما يشعر أبو مازن أنه صار غير مقيد بحكومة وحدة وطنية وبوثيقة الوفاق الوطني في ما يتعلق بالتفاوض في قضايا الوضع النهائي، وأن بوسعه الآن أن ينتهز الفرصة لحسم قضايا لم يكن يمكن أن يحسمها في ظل الوفاق القصير مع «حماس» بعد اتفاق مكة المكرمة.

لا للوضع النهائي الآن...

ومع ذلك، فإن أبو مازن يخطئ كثيراً لو لم يعترف بحدود دقيقة للتنازلات التي يزمع القيام بها في إعلان المبادئ الذي يتفاوض بشأنه في الواقع منذ فترة ليست قصيرة بصورة سرية مع الجانب الإسرائيلي. وبالمقابل، فإن على الجميع الاعتراف بأن من حق أبو مازن أن يجرب فرصة التفاوض وأن يمنح مساحة ما للتفاوض بنجاح.

ما حدود التنازل بالضبط التي تُبقي ثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية وتُنجح المفاوضات بشأن الوضع النهائي أيضاً؟

من الواضح أن ثمة تعارضاً أصيلاً في المبادئ وفي جوهر القضايا.

فالحكومة الإسرائيلية الحالية وفي ظل قيادة أولمرت تريد فصلاً «ديموغرافياً» وليس دولة فلسطينية كاملة السيادة، وهو يريد أن يرسم هذا الفصل بما يُبقي %40 على الأقل من الضفة الغربية بيد إسرائيل، وأن يعزز هيمنة إسرائيل على القدس الشرقية ويلغي حق العودة. وفي أفضل الأحوال سيبقي السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية مع إلغاء حق العودة مقابل إعادة ما قد يصل في الحقيقة إلى %80 من الضفة على أحسن تقدير. وقد «يتنازل» ويمنح الفلسطينيين وجوداً رمزياً في القدس الشرقية، أو أن يمنحهم حتى وجوداً مادياً في الحي العربي وحده مع إيجاد ترتيبات معقدة في الحرم الأقصى الشريف. ومثل هذا الموقف لن يكون مقبولاً من أي فلسطيني مهما بلغت «مرونته».

المتوقع بالتالي أن تفشل مفاوضات إعلان المبادئ وأن ينتقل الطرفان إلى الولايات المتحدة للتفاوض في إطار دولي قد يفرض حلاً من ناحيته. ومن المرجح أن تصل الرباعية في هذه الحالة إلى قرار يقترب إلى حد ما من صيغة مفاوضات طابا، باستثاء القدس وقضية العودة التي قد تفرض فيهما الرباعية أو الإطار الدولي كله صيغة أقل مما كان معروضاً على الفلسطينيين في طابا.

وإذا صح افتراض أن المفاوضات الحقيقية ستجري في الإطار الدولي وفي الولايات المتحدة سيكون على أبو مازن أن يضع سقف الموقف الفلسطيني بقدر كبير من الوضوح.

فإن شاء أبو مازن النجاح للمفاوضات، وخاصة في سياق ضغوط دولية لا تطاق، فعليه أن يعالج المسألة كما يلي: إن أي تنازلات فلسطينية ضرورية للحصول على مكاسب جوهرية ولنجاح المفاوضات، يجب ألا تجحف حق الفلسطينيين في إعادة التفاوض في وقت لاحق لاستكمال الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القرارات الدولية والعربية. وبتعبير آخر على ابو مازن أن يرفض مفهوم «الوضع النهائي» وأن يعتبر المفاوضات في «قضايا الوضع النهائي» عملية مفتوحة وتراكمية، بحيث يكون الاتفاق المقبل -إن تم- مفتوحاً لإعادة التفاوض، وبصورة خاصة بشأن القدس وحق العودة، وهما جوهر القضية الفلسطينية كلها، حيث لا مجال لأي تنازلات نهائية.

*كاتب ومفكر مصري

back to top