الطريق اللبناني الثالث

نشر في 15-01-2008
آخر تحديث 15-01-2008 | 00:00
 د. عمار علي حسن

في كل مرة يتأزم الوضع في لبنان يلوح الحل دوماً في «الحل الوسط» أو «الطريق الثالث»، وهو ليس أيديولوجية جديدة للبنان، ولا مشروعاً سياسياً متكامل الأركان، بل هو آلية، حتى لو مؤقتة، تمنع انجراف الغبن السياسي إلى تناحر مسلح، وتحصن لبنان ضد أي تدخل خارجي.

لا يمكن أن يخرج لبنان من أزمته الراهنة مع وقوف «الموالاة» و»المعارضة» على طرفي نقيض، فلا حوار أو تشاور، ولا تغليب للمصلحة الوطنية على المنافع الشخصية والأهواء الذاتية والرغبة الممقوتة في الانتصار للرأي والموقف، وكأن الطرفين في معادلة صفرية، يسعى أحدهما بكل قوته إلى أن يظفر بكل شيء، ويحرم الآخر حتى من أدنى الأشيـاء. وهذا العناد السياسي المفضوح أدى إلى تعثر المبادرات كافة التي رامت انتشال لبنان، وهاهو يعرقل «المبادرة العربية» التي إن فشلت فمن الممكن أن «ينفض الكل يده عن لبنان»، حسب تصريح الرئيس المصري حسني مبارك، الذي أطلقه بعد أن عاد الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى من بيروت خالي الوفاض.

وفي كل مرة يتأزم الوضع يلوح الحل دوما في «الحل الوسط» أو «الطريق الثالث» الذي يأخذ من آراء ومواقف الموالاة والمعارضة على حد سواء، بغض النظر عن النسبة التي يصنعها كل منهما في هذا الحل، ويضع نصب عينيه أن لبنان على شفا الهاوية، وأن النخبة إن تصرفت من دون مسؤولية فستنزلق الأوضاع إلى حرب أهلية، تأتي على الأخضر واليابس.

والطريق الثالث هنا ليس أيديولوجية جديدة للبنان، ولا مشروعاً سياسياً متكامل الأركان، بل هو آلية، حتى لو مؤقتة، تمنع انجراف الغبن السياسي إلى تناحر مسلح، وتحصن لبنان ضد أي تدخل خارجي، غزوا كان أو حماية ووصاية أو حتى مجرد دس أنف غريب، في بلد كم عانى من ذوي القربى... فما بالنا بالغرباء.

وهذه الآلية تتأسس على حزمة من الأهداف قريبة المدى، التي يؤدي تحقيقها إلى إخراج لبنان من ورطته السياسية والأمنية. وأول هذه الأهداف هو تجسير الفجوة بين «الموالاة» و«المعارضة» بحيث تضيق إلى أقصر حد ممكن، وتلتئم على فهم مشترك لوضع البلاد الحساس. وبالطبع فإن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تتطابق مواقف ورؤى الفريقين المتنافسين، لكن المنتظر أن يتعمق هذا الفهم لدى الأغلبية منهما، لا سيما الكتلة الحية المؤثرة في مسيرة لبنان السياسية الراهنة، والتي لا يمكن أن تكسرها قلة هنا وهناك خارجة عن قيم التوافق السياسي والاجتماعي العام.

وثاني هذه الأهداف هو ترتيب حياة سياسية سليمة يخرج بها النظام السياسي اللبناني عن حال «الشرعية المجروحة» التي يعيشها الآن، وحتى تطفو على السطح تدريجياً نخبة برلمانية وسياسية وإدارية تتوافق مع متطلبات المرحلة الجديدة التي يعيشها لبنان بعد الانسحاب السوري، وتفّوت الفرصة على أي طرف خارجي يريد أن يحقق عبر لبنان مصالح استراتيجية إقليمية تخدم إسرائيل بالدرجة الأولى.

وثالث هذه الأهداف هو إعادة الثقة في الاقتصاد اللبناني، الذي تأثر سلباً بهذا التطاحن السياسي الذي أعقب اغتيال الحريري، فضلا عن الحرب الأخيرة، فزاد وهناً على وهنه، وبات في حاجة إلى شخص يتمتع بقدرة فائقة في الإدارة، وخيال خصب يهب اللبنانيين تصورات عملية تطلق طاقاتهم الاقتصادية المعطلة بفعل جمود الإدارة وافتقارها القدرة على تقديم اقتراحات عملية لشعب معروف عنه ميله الفطري إلى النجاح في عالم المال والأعمال.

أما الهدف الرابع فهو عدم تحويل لبنان بأي حال من الأحول إلى نافذة يدخل منها من يستهدف سورية، بل بناء علاقات متكافئة، بين دولتين كاملتي السيادة، تأخذ في الاعتبار المصالح المتبادلة، والتاريخ المشترك، وتفهم أن النيل من سورية سيؤدي في خاتمة المطاف إلى إضعاف لبنان، بل تفجيره من الداخل. وخامس هذه الأهداف هو أن يصبح لبنان رقماً فاعلاً ومهماً في أي معادلة دولية تبحث عن حلول أو مساعدة عبر الانخراط والتعاون الكامل، والتعامل بلياقة دبلوماسية وسياسية تكافئ خطوة الوضع الحالي، وتمنع استغلاله في النيل من أطراف وقوى لبنانية، أو من سورية. وهنا تطل المبادرة العربية برأسها وتبدو حلاً مقبولاً ببنودها الثلاثة التي تقضي بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، والاتفاق على تشكيل حكومة يكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح فيها، ثم إعداد قانون انتخابي جديد.

والهدف السادس هو ترسيخ وفرض الحل الداخلي لقضية تسلح الميليشيات، وتحويل كل هذه الطاقة إلى مواجهة العدو الخارجي، بما يقي البلاد من أي مصادمات، أو يضعف جبهتها في مواجهة إسرائيل، التي تنتظر إما تناحراً بين اللبنانيين، وإما حالة من الضعف، تجعل من لبنان مسرحاً سهلاً للجيش الإسرائيلي، الذي لن ينسى خروجه الذليل من الجنوب اللبناني، مهزوماً أمام ضربات المقاومة وإصرارها على تحرير الأرض، ولن يغفل عن هزيمته الثانية في صيف عام 2006.

أما على المدى البعيد فإن اللبنانيين جميعاً مطالبون بالاشتباك السلمي حول مشروع سياسي يكسر حدة الطائفية، التي تثبت كل يوم أنها «فيروس» كامن في الحياة السياسية اللبنانية، ينتظر أي لحظة ضعف لينشط، ويصيب البلاد كلها بنوبات مرضية لا تنتهي. وأولى الخطوات نحو هذا الهدف الأسمى هي انتخاب رئيس للبلاد في 21 يناير الجاري ومن دون إبطاء، ثم الشروع في وضع قانون انتخابي يمثل الخريطة السياسية اللبنانية تمثيلاً واقعياً وحقيقياً، يضمن الاستقرار.

* كاتب وباحث مصري

back to top