الفارق الأساس بين تركيا وباكستان، هو أن الأولى آمنت بسيادة القانون وباحترام الدستور العلماني، حتى بعد فوز الحزب الإسلامي بأغلبية ساحقة، بينما ظل الدستور «الطوفة الهبيطة» في باكستان، فكل من أراد الاستمرار في سطوته وفساده، أعلن حالة الطوارئ وعلّق الدستور، أليس هذا ما يحدث الآن من قبل الرئيس وقائد الجيش «جنرال مشرف».تركيا ذات السبعين مليون نسمة، المحاطة بثماني دول، خمس منها أوروبية وإيران ودولتان عربيتان هما العراق وسورية، البلد الديموقراطي المتقدم، الذي يتمتع فيه الجنسان بالحق السياسي الكامل لمدة تقارب الثمانين عاماً، دستورها العلماني يحدد معايير رئاسة الدولة، التي يتقلدها الآن المسلم عبدالله غول لفترة سبع سنوات، ورئاسة الوزراء المنتخبة من قبل أغلبية البرلمان، ويتقلدها المسلم رجب طيب أردوغان.
كما يحدد ذلك الدستور الفصل بين السلطات في حال الخلاف الدستوري بينها والتي تقع ضمن صلاحيات الجيش العلماني، الذي يأتي بالمرتبة الثانية كأكبر قوة مسلحة في منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بعد الولايات المتحدة، وتستضيف أبواب مدينة أدنه التركية 26 قاعدة عسكرية أميركية في حدودها المشتركة مع كل من سورية والعراق.
في الثمانينيات، بدأت تركيا سلسلة من الإصلاحات، استهلت بضوابط صارمة لمشاركة القطاع الخاص، وتغييرات هيكلية في القطاع المصرفي، وتغيير وزن عملتها، وخلال 20 عاماً تمكنت من السيطرة على تفشي الفساد، والتحكم في معدلات التضخم، حتى تراجعت إلى رقم مفرد بلغ 8% عام 2006، كما تجاوزت معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الخمس الأخيرة 35%، مما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، وأصبح حجم اقتصادها رقم 17 في العالم ورقم 6 في أوروبا، وبعد سنوات من انخفاض مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، نجحت تركيا في اجتذاب أكثر من 10 مليارات دولار في عام 2006، ويعتمد اقتصادها على الصناعات التقليدية مع نمو مضطرد للصناعات المتقدمة، ومنذ 2005 أخذت المفاوضات الرسمية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منحى أكثر جدية، وسيستغرق إنضمامها نحو 15 عاماً، بسبب حجم تركيا وعمق الخلافات بشأن بعض القضايا.
وتجاوز عدد السياح في تركيا الـ 25 مليوناً عام 2006، للاستمتاع بأجواء فريدة ذات ثقافة ممزوجة بين الشرق والغرب، وبعناق الفن الإسلامي والمسيحي الذي تتجلى روائعه في عدد من معالمها السياحية، ومعايشة المدنية الأوروبية التي لم تحجب أصوات المنادين للصلاة من منابر مساجدها التاريخية. ويتزايد عدد سكانها بمعدل %1.5 سنويا، حيث يشكل المسلمون %99، أما بقية السكان فهم من الطوائف المسيحية واليهودية وغير المنتمين إلى أي دين، وليس للدولة دين رسمي، ودستورها يكفل حرية الأديان من عدمها كما هو حال أوروبا.
وتنفق تركيا ببذخ على دعم الفنون بألوانها كلها، وتحولها من حكم السلاطين العثمانيين إلى العلمانية، أضاف ميزة فريدة لتعانق الحضارتين، بالحفاظ على القيم الدينية التاريخية والتقدم نحو المدنية الأوروبية، وقد يفاجأ من يزور آخر قصور الحكم العثماني للسلطان عبدالمجيد، عندما يكتشف أن مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس تركي علماني بعد الخلافة العثمانية، كان يقطن هذا القصر خلال زيارته إلى اسطنبول، من دون أن يمس أو يدمر أو حتى يغير كل ما من شأنه أن يذكره بحقبة من النظام تختلف فكرياً وإيديولوجيا عن النظام العلماني، وليس غريباً على هذا النظام المتسامح مع الثقافة والفن الإسلامي أن ينال أحد مواطنيه، الأديب أورهان باموك جائزة «نوبل» للآداب في عام 2006، حيث عبَّر عن ذلك التسامح بين الحضارات عندما قدم ذلك الفن ممزوجاً من فنون الإمبراطورية العثمانية والعالم الإسلامي جنباً إلى جنب مع فن الحضارة الأوروبية.
أما جمهورية باكستان الإسلامية، السادسة عالمياً من حيث عدد سكانها، والثانية من حيث الأكثرية المسلمة، وتشمل الأقليات الهندوسية والمسيحية، وكذلك بعدد أقل السيخ والبوذيين واليهود، التي تأسست رسمياً تحت قيادة محمد علي جناح، بعد أن جرى تمزيق نسيجها المجتمعي، وترحيل غير المسلمين منها إلى الهند والمسلمين من الهند إليها، ولديها حدود مشتركة مع كل من الهند وإيران وأفغانستان، واعتمد أول دستور لها في عام 1956، عُلق بعد عامين، ثم دستور آخر عام 1973، عُلق بعد أربع سنوات، ثم أعيد عام 1991 ليحدد نظام الحكم وتوزيع الاختصاصات، إلا أن الأحداث السياسية الدامية دائماً ما تجعل دستورها عرضة للتعليق، وتسبب عدم الاستقرار في انقسام الدولة المسلمة إلى دولتين باكستان وبنغلادش، يجمع بينهما العنف والتخلف.
وعلى الرغم من دورها المحوري كحليفة للولايات المتحدة في دعم الإرهاب كالتوقف عن دعم المتطرفين المسلمين وجماعة «طالبان» في أفغانستان، مقابل حصولها على أربعة مليارات دولار خلال ثلاثة أعوام بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، فإن عدم الاستقرار السياسي استمر باستمرار ذلك النظام.
ويواجه الاقتصاد الباكستاني تحديات على الجبهات جميعها، فهو بلد فقير يعيش أكثر من ربع السكان - أربعون مليوناً - تحت مستوى الفقر، ومن الدول التي يرتفع فيها معدل وفيات الأطفال، وظاهرة التسول لصغارها، وتقترب ديونها الخارجية من 40 مليار دولار، ويعيش أربعة ملايين باكستاني في الخارج نصفهم في الولايات المتحدة، والنصف الآخر ينقسمون بالتساوي بين المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة، وتشترك باكستان والهند في حدودهما الجغرافية الجميلة، حيث تشتهر بقممها الجبلية، إلا أنه لا يمكن مقارنتها بعدد السياح المرتادين جارتها الهند.
والفارق الأساس بين تركيا وباكستان، هو أن الأولى آمنت بسيادة القانون وباحترام الدستور العلماني حتى بعد فوز الحزب الإسلامي بأغلبية ساحقة، بينما ظل الدستور «الطوفة الهبيطة» في باكستان، فكل من أراد الاستمرار في سطوته وفساده، أعلن حالة الطوارئ وعلّق الدستور، أليس هذا ما يحدث الآن من قبل الرئيس وقائد الجيش «جنرال مشرف».