رمضانية لبناء مجتمع عربي

نشر في 07-10-2007
آخر تحديث 07-10-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

كل ما فعلته الدولة أنها استعارت شكل الدولة الوطنية الغربية الحديثة ورموزها من دون أن تعتمد أي تصور خلاق لمستقبل المجتمع، فأفرطت في بناء بيروقراطية دولة كبيرة ثم بدأت في حشر الفعاليات القبلية داخل هذا البناء من دون أن تنظر إلى عشرات من العمليات الاجتماعية-الاقتصادية التي تؤثر في التطور اليومي للمجتمع.

اشتهر عن العرب قديماً وحديثاً قبليتهم، وهي تحسب ضدهم وليست لهم، لأنها تفهم فهماً «ثقافوياً» ضيقاً لا تاريخياً.

وواقع الأمر أنه لا يمكن فهم أي تنظيم اجتماعي بمعزل عن غيره، فكل مؤسسة اجتماعية تكسب وتخسر من علاقاتها مع كل مؤسسة أخرى، وبنية المجتمع القبلي تغيرت لا عبر الحقب بل في الحقبة التاريخية نفسها تبعاً للتحولات الكلية في علاقات القوة وعلاقات الكسب والتعيش.

ولم تكن بنية القبيلة العربية في أي بيئة اجتماعية وثقافية أخرى مغلقة إلا على سبيل الاستثناء ولفترة ما من الزمن، والقبيلة العربية نفسها كانت تفتح أبوابها للقيام بوظيفة اجتماعية محورية بما في ذلك أكبر العمليات التاريخية: أي بناء الأمم عبر الدمج والصهر لعناصر غريبة؛ بصورة فردية أحياناً، وجماعية أحيانا أخرى. الأشكال التاريخية القديمة للدمج الاجتماعي من أجل بناء قبيلة أكثر اقتداراً أو أكبر، كانت فردية في العادة، فيتم استيعاب أفراد وتثقيفهم بثقافة القبيلة وتاريخها ومفرداتها واكساب من كانوا أغراباً المهارات التي تتوافق مع استراتيجية القبيلة في التعاطي مع فرصها في الحياة وفي صعود سلم القوة بالمقارنة مع غيرها. لكن الاندماجات أو الاتحادات القبلية لم تكن نادرة.

وينبغي أن نفتح عيوننا دائما على عملية فتح البوابات القبلية وغلقها وكيف تتم وفي أي ظروف وتحولات تملي نفسها.

هذه كلمات أولية لفتح ملف مستقبل المجتمعات العربية عموماً والخليجية خصوصاً، ونقطة البدء في أي معالجة لهذا الملف الشائك هي تحولات العلاقة بين الدولة والقبيلة منذ اكتشاف النفط وتأسيس الدولة المركزية.

ما يهمنا في هذه التحولات أنها رغم وفرة ما كُتب عنها، لم تسمح بتأمل عميق وتدفق فكر ثاقب حول مستقبل الدولة والمجتمع. كل ما فعلته الدولة أنها استعارت شكل الدولة الوطنية الغربية الحديثة ورموزها من دون أن تعتمد أي تصور خلاق لمستقبل المجتمع، فأفرطت في بناء بيروقراطية دولة كبيرة ثم بدأت في حشر الفعاليات القبلية داخل هذا البناء من دون أن تنظر إلى عشرات من العمليات الاجتماعية-الاقتصادية التي تؤثر في التطور اليومي للمجتمع.

كانت الدولة فاقدة التركيز، وكان المجتمع مشتتاً بين حوافز وضغوط مختلفة ومتباينة في الاتجاه، ومضت الدولة بحكم ثقلها المتزايد و«شخصنة» السلطة في تطبيق برامج أنتجت من المشاكل أكثر مما عالجتها ومن دون أن يكون لديها أي تصور خلاق لمستقبل المجتمع، أما المجتمع ذاته وبحكم المنازعات الداخلية فقط فقد توجه إلى إنتاج ضغوط مختلفة على الدولة لم يكن أكثرها متوافقاً مع أي صورة موضوعية وبناءة للمستقبل.

تعرض المجتمع وتماشت الدولة جزئياً مع أربعة مستويات من الضغوط العشوائية التي أفشلت أي تصور خلاق لمستقبل المجتمع:

- الأول: هو الاضمحلال الاقتصادي للقبيلة وتسارع تفككها بتأثير الفارق أو التمايز الطبقي والاجتماعي. ومع ذلك أدى غياب تنظيمات اجتماعية حديثة، باستثناء الهامشية منها، إلى استدعاء رمزي للقبيلة، أو بالأحرى للقبلية باعتبارها القاعدة الأهم للتضامنيات السياسية الجاهزة في الصراع بشأن توزيع الإمكانات وعائدات النفط. ولذلك اضمحلت القبيلة مادياً وتعززت رمزياً، وبالتالي انغلقت جزئياً على الأقل وفقدت جانباً مهماً من قدرتها على الدمج والصهر الاجتماعي.

- الثانى: ترتب تلقائياً على هذا الصراع التوزيعي في سياق بناء الدولة وهياكل قوتها أو سلطتها الرسمية. وتم بوجه عام إعادة توزيع للامكانات داخل بنية الدولة. واكتسبت الدولة طبيعة قبلية معقدة عوضاً عن اكتساب استقلالها الذاتي والضروري لبناء موضوعي للمجتمع.

- المستوى الثالث للضغوط: ترتب في البداية على الخفة السكانية وعدم جاهزية المجتمع الخليجي للتحول إلى الحداثة الاقتصادية بشكل خاص، وتبلور في هجرة العمالة الأجنبية من أرجاء العالم كله، لاسيما من العالم العربي.

المستوى الرابع: تمثل في الخلل الاستراتيجي الضخم والملموس على المستوى الإقليمى، وهو ما عمّق دور الدول الكبرى والقائدة، وأحدث أكبر قدر من الخلخلة في هوية الدولة ورسالتها ودورها في إنتاج صيغة خلاقة لمستقبل المجتمع بحكم أولوية الأمن الخارجي واشتباكه في مواقع، وأحيانا معينة مع الأمن الداخلي بالمفهوم السوقي المنقول من تراث الدولة الغربية.

ترتب على هذه العوامل الضاغطة أن تكَوّن المجتمع عشوائياً ومن دون تفكير عميق في مستقبله أو في نماذج هذا المستقبل. وكنتيجة لهذه الضغوط كلها تحول المجتمع القبلي الأصلي بصورة بالغة التعقيد والتشوه بكليته إلى الجنس المهيمن، وهو ما هدده بتنامي العنصرية، وتحولت القمم القبلية إلى أرستقراطيات أو بالأحرى إلى «أوليجاركيات» تتنازع المكانة في بنية الدولة والاقتصاد من دون أن تحدث قطيعة عبر استدعاء جزئي أو كامل للولاءات القبلية، وتحولت الأسر الملكية إلى قمم بيروقراطية وعسكرية وأمنية ذات علاقات معقدة تقوم في الجوهر على إدارة المخصصات والإمكانات بين شتى الفئات المتنازعة. بل ثارت داخلها هي نفسها منازعات مهمة بشأن كل القضايا، لاسيما الاستراتيجية منها.

غير أن أهم المشكلات التي ترتبت على هذه الضغوط والتحولات هي تلك المتعلقة بمستقبل المجتمعات الخليجية الأصلية، وهو ما يسري أيضا -وإن كان بصورة جزئية ومختلفة- على المجتمعات العربية جميعها. والإشكالية المطروحة هنا هي التناقض بين حتمية ترتيب امتيازات وأسبقية ما للمواطنين الأصليين مقابل المهاجرين للعمل من ناحية، وضرورة بناء صورة لمجتمع حديث فعلاً يقوم على المساواة وكفاءة الأداء الوظيفي والقدرة الفعلية على القيادة المقنعة وليس على امتيازات الولادة أساساً، من ناحية أخرى.

ومن الناحية النظرية كان الاختيار محصوراً بين ثلاثة نماذج كبرى، إضافة إلى نموذج مستعار:

* النموذج الأول: هو المجتمع الإثني القديم الذي يقوم على المواطن ويستبعد غير المواطنين سياسياً بمن فيهم النساء وذوي الإمكانات الأدنى، وراكم هذا النموذج خبرات في الإدارة السياسية ولكنه تعرض لكسرات وهزات كبيرة بسبب غربة وغضب السكان غير المواطنين، ولم يطبق هذا النموذج في دول الخليج إلا بصورة غير رسمية، وفقط في الكويت حتى الآن وربما قطر منذ سنوات قليلة. ولم يكتسب المواطنون في الخليج بالتالي مهارات السياسة إلا على نحو محدود لأن السياسة نفسها كانت غير رسمية أكثر منها رسمية.

النموذج الثاني: أشبه بالنموذج الإسبرطي القديم أيضاً الذي أخذت به ألمانيا منذ ستينيات القرن التاسع عشر ويقوم على الاندماج الاجتماعي وتخصيص الطبقة الارستقراطية في القيادة العسكرية والسياسية. وكان لهذا لنموذج فرصة في التطبيق المبكر وقبل أن تدوِّخ عائدات النفط عقل المجتمع وتجرفه في البداية إلى ثقافة استهلاكية و«متعوية». وعززت الدولة هذا الانجراف لأنه يشتمل على نزع التسييس ثم استبداد هياكل السلطة.

أما النموذج الثالث: فيمكن تسميته بالنموذج السويسري في سياق عصر الإصلاح الدينى، إذ تحول السكان الأصليون من مرتزقة عسكريين يخدمون الجيوش الإقطاعية الأوروبية إلى بناء مستوى من المهارات الحرفية والفنية والتنظيمية والمالية دفعت تطور هذا البلد إلى مستويات لم تكن معروفة في أوروبا، وكان البديل المنطقي في حالة الخليج تحديداً هو الاستثمار في تحويل القبيلة من بنية اقتصادية مهجورة إلى مدرسة في إعادة البناء المهاري للمواطنين الأصليين بما يضمن تمكينهم من امتلاك مهارات القيادة الوظيفية للمجتمع المتضخم بالسكان الوافدين عوضاً عن تحولهم الفعلي إلى شرائح بيروقراطية وكفلاء. ولا شك أن هناك صعوبات كثيرة حالت في الماضي دون الأخذ بهذا النموذج. ولكن لو أن صورة ما للمجتمع توافرت في هذا السياق لكان يمكن مساعدة القبيلة على استيعاب الخبرات الأجنبية والأخذ بهذا النموذج الخلاق. وكان من شأن الأخذ بهذا النموذج أن يدمج بصورة سلسة كثيراً من السكان الوافدين ويحولهم الى مواطنين عبر الانتساب القبلي الذي شكل أحد أهم وظائف القبيلة العربية التقليدية.

أما النموذج الرابع: فهو مستعار من الدولة الوطنية المركزية الغربية الحديثة من دون أن يتوافر أساسها المادي الموضوعي ماعدا عاملاً مهماً وحيداً تقريباً، وهو نشر التعليم.

وكان من شأن هذا العامل أن يحول المواطنين الأصليين إلى قيادة متكاملة ومقتدرة للمجتمع لو كان التعليم متقدماً فعلاً وأخذ ثقافياً بصورة جادة للغاية، باعتباره جوهر المشروع المستقبلي للمجتمع ، وإن كانت العوامل الأخرى أكثر إيجابية.

ومن البديهي أن كل مجتمع عربي أو خليجي له الحق في أن يأخذ بالنموذج المميز الذي يلائمه، وأن يدمج بين أفضل عناصر أكثر من نموذج. وما نقوله هو أن الفرصة لم تفت على الأخذ بصورة ما لمستقبل كل من هذه المجتمعات لكي تُحل بها مشكلاتها المحددة، وهنا تأتي فكرة المشروع أو الصيغة الرمضانية.

* كاتب مصري

back to top