Ad

المراهنة اليوم على نظام الدوائر الخمس أملا في تمثيل برلماني أكثر صدقاً وعدلاً يضم كل شرائح المجتمع، ويحد من احتمالات الاحتكار الطائفي والقبلي، ويمنع شراء الأصوات، ويضمن وصول كفاءات جيدة إلى البرلمان. ولكن هل تضمن «الدوائر الخمس» ذلك حقا؟!

الكويت -الدولة الخليجية- ذات الـ3.4 ملايين نسمة بحسب آخر إحصاء لمؤسسة الشال، تعيش هذه الأيام عرساً انتخابياً بهيجاً، المجتمع الكويتي في شغل شاغل بالاستعدادات والتحضيرات المسبقة لـ17 مايو، موعد الانتخابات الجديدة لمجلس الأمة 2008.

المرشحون القدامى والجدد على قدم وساق منهكون في عمل الخطط والتكتيكات، وعقد التحالفات وإجراء التنسيقات وكسب الولاءات ضماناً لوصولهم إلى الكرسي الأخضر.

من يطل على الساحة الكويتية هذه الأيام يجد جدلاً ساخناً وصخباً شديداً وحيوية سياسية وفكرية وثقافية لا نظير لها في أي مجتمع عربي آخر، ندوات ولقاءات ومؤتمرات وديوانيات تملأ الفضاء المجتمعي وتتناول كل شيء بكل حرية وشفافية، فالكويتي يعتز بحريته ويفتخر بأنه صاحب أعرق ديموقراطية خليجية لكنه في الوقت نفسه هو أكثر الخليجيين انتصاراً لها. المشهد الكويتي هذه الأيام منشغل بقضية أساسية تكاد تهيمن على المناخ السياسي العام وهي قضية «الوحدة الوطنية» ويبدو أن الذي أثار هذه القضية وجعلها تطفو على السطح، تداعيات وتوابع زلزال «تأبين مغنية» وآثاره على مكونات المجتمع الكويتي، وكان من حسن حظي أن أحضر عدة ندوات ولقاءات بهذا الشأن، وكانت لي مداخلات لكني لم أر ما يستدعي هذه «الفزعة» وتلك «التخوفات» على الوحدة الوطنية. الكويتيون ينعمون بمجتمع قوي ومتماسك، وإذا كان بعض هذه الطائفة يتعاطف مع إيران ومعادياً لأميركا وبعض الطائفة الأخرى هواه مع الحركات الدينية المتطرفة، فكل ذلك لا يقدح في صحة الانتماء الوطني، ومثل هذا موجود في كل دول العالم ولدى كل الشباب.

لا خوف على الوحدة الوطنية في الكويت من الميول والتوجهات فهي طبيعية، لكن المطلوب شيء آخر هو أهم وتفقتده الساحة العربية كلها، هو تفعيل مفهوم «المواطنة» عبر إجراءات عملية واقعية يلمسها المواطن في حياته وفي معيشته في سائر نواحي المجتمع، في التعليم وفي التوظيف وفي التشريع وفي الإعلام وفي الخطاب الديني السياسي، ترسيخ مفهوم (المواطنة) في التربة المجتمعية -عملياً- هو عامل «التحصيل» الأقوى للمجتمع تجاه كل الانتماءات الأخرى: قبلية أو طائفية أو مذهبية أو فئوية. الحكومة الكويتية أعلنت حرباً لا هوادة فيها ضد ما يسمى بالانتخابات القبلية «الفرعية» باعتبارها خروجاً على النظام العام يجرّمه القانون من ناحية، ومن ناحية أخرى تعدّ «الفرعيات» عامل تشرذم تكرس الانتماء القبلي وتسمو به فوق الانتماء الوطني الجامع، لكن السؤال القلق: ما الذي ألجأ هؤلاء إلى «الفرعيات»؟!

أليس حجز السلطة الوطنية في غرس مفهوم «المواطنة» باعتبارها انتماء جامعاً وعابراً لكل الولاءات والانتماءات الأولية؟! الفرد عندما يلجأ إلى قبيلته أو طائفة فذلك إما طلباً لسند أو طمعاً في مغنم ولو أنصف القانون وكان عادلاً لما لجأ الناس إلى الولاءات الأولى.

ديموقراطية الكويت ترجع إلى عام «1961» بشكل رسمي وإن كان قبله بشكل غير رسمي، حين قسّمت الكويت إلى 10 دوائر، تنتخب كل منها عضوين لتكوين «المجلس التأسيسي» من 20 نائبا، وعليها تمت أول انتخابات لأعضاء أول مجلس أمة «يناير 1963» ثم عدلت إلى «25» دائرة انتخابية في ديسمبر «1980» وعلى أساسها تشكلت مجالس الأمة المتتابعة حتى آخر مجلس تم حله -للمرة الخامسة- أخيرا في مارس 2008، بعد استقالة الحكومة بسبب عدم القدرة على التعاون مع البرلمان. لكن هذه «الديموقراطية العريقة» التي ظلّت مصدر إلهام وفخر الخليجيين جميعاً، وبعدما يقرب من نصف قرن من الممارسة الديموقراطية وفي ظل كل الإمكانات اللازمة، وتوافر كل الموارد والطاقات المطلوبة ووجود الرغبات الصادقة والنيات الحسنة لدى القيادة السياسية والمجتمع الكويتي، لم تستطع هذه الديموقراطية تحقيق آمال وطموحات وأهداف الكويتيين، خصوصاً على صعيد «التنمية الاقتصادية» مقارنة بدول خليجية حديثة العهد بالتجربة الديموقراطية، لكنها حققت خطوات متقدمة في مجالات تنموية عديدة.

الكويتييون ومن منطلق حبهم لوطنهم، واعتزازهم بديموقراطيتهم، هم الأكثر انتقاداً للممارسة الديموقراطية الحاصلة وهم الأصدق تشخيصاً لعللها، وهم الأدرى والأكثر قدرة على وصف «الروشتة» العلاجية. تُرى أين يكمن الخلل؟! ومن المسؤول عن هذا الإخفاق التنموي؟ ولماذا سلسلة التأزمات والاحتقانات المستمرة بين الحكومة والبرلمان؟ في مثل هذه الأجواء يتبارى الفرقاء في توجيه الاتهامات وكل طرف يلقي باللوم والمسؤولية على الطرف الآخر، أطراف مجتمعية عديدة تحمّل الحكومة مسؤولية، والحكومة تحمل النواب، وهناك أطراف تحمل القاعدة المجتمعية بسبب ضعف الوعي الانتخابي لدى بعض المواطنين الذي انحاز للقبيلة أو الطائفة على حساب الكفاءة أو المصلحة العامة، وهؤلاء لسان حالهم يقول «قلوبنا مع المرشح الوطني وأصواتنا لابن القبيلة أو الطائفة». لكن الحقيقة التي يجب أن يقر بها الجميع أن المسؤولية مشتركة وأن كل الأطراف ساهم بطريقة أو بأخرى في هذا الوضع الذي يشكو منه الجميع لدرجة أن مؤتمر التوافق الإسلامي الوطني الخامس انتهى إلى أن «ديموقراطيتنا بحاجة إلى عملية جراحية».

ويبدو أن قطاعاً مجتمعياً كبيراً ونخباً سياسية وفكرية توصلوا من خلال الممارسة الديموقراطية المتأزمة والعلاقة المحتقنة بين السلطتين إلى أن «الأعراض المرضية» التي ظهرت انتشرت وشوّهت ديموقراطية الكويت إنما هي ناتجة عن علة أساسية هي «الدوائر الـ25» كونها المسؤولة عن بروز مظاهر الطائفية والقبلية والفئوية التي أضعفت مقومات الوحدة الوطنية وأتاحت مجالاً واسعاً لشراء الأصوات ولتأثير «المال السياسي» على أصوات الناخبين، لذلك نشط كثيرون خلال الانتخابات الماضية، وعبر جماعات «نبيها خمس» إلى إيصال مرشحين إلى المجلس يتبنون قانون «الدوائر الخمس» وهكذا أصدر أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح القانون رقم 42 لسنة 2006 بإعادة تحديد الدوائر الانتخابية إلى 5 دوائر، وتنتخب كل دائرة 10 من المرشحين، ويكون لكل ناخب حق الإدلاء بصوته لـ4 من المرشحين في الدائرة وعلى أساس هذا التقسيم تجري انتخابات مجلس الأمة في 17 مايو القادم.

المراهنة -إذن- اليوم على نظام الدوائر الخمس أملا في تمثيل برلماني أكثر صدقاً وعدلاً يضم كل شرائح المجتمع ويحد من احتمالات الاحتكار الطائفي والقبلي ويمنع شراء الأصوات ويضمن وصول كفاءات جيدة إلى البرلمان. ولكن هل تضمن «الدوائر الخمس» ذلك حقا؟! في تصوري وخلافاً للاتهامات الموجهة للأطراف الثلاثة: الحكومة، البرلمان، القاعدة الانتخابية، وحتى نظام الدوائر، أن العلة ليست في عدم حزم الحكومة واضطرارها لعقد صفقات مع الكتل البرلمانية لتمرير مشروعاتها ولا أن النائب أسير قبيلته أو طائفته يسترضيها على حساب المصلحة العامة فيستغل سلاح «الاستجواب» سيفاً مصلتاً على الوزير يرهبه به لتحقيق مصالح فئوية. ولا أيضا ضعف الوعي الانتخابي... القضية أساسا في محاولة الجواب لماذا لا تستطيع الحكومة الكويتية تمرير مشاريعها المستقبلية الهادفة لجعل الكويت مركزاً مالياً واستثمارياً متقدماً إلا بعد تسويات وصفقات؟! والجواب الذي يجمع عليه كثيرون في الكويت، أن الحكومة لا أغلبية لها في المجلس تمرر بها المشروعات!! وهذا وضع غريب واستثنائي في الحياة الديموقراطية!!

ولذلك فإن الداوئر الخمس حتى لو أفرزت كفاءات، فمن الذي يضمن أن تشكل أغلبية للحكومة؟! ولماذا لا تكون الشكوى منهم مثلما نشتكي من النواب السابقين؟!

القضية لا تتعلق بالدوائر وتقسيماتها بمقدار أننا أمام وضع استثنائي لحكومة ليست ذات أغلبية ومن هنا كان التأزم المستمر والاحتقان المزمن بين السلطتين ومن هنا -أيضا- كانت كثرة الاستجوابات التي ضحت بالوزراء وسرعة تغير الحكومات الثلاث الأخيرة والتي لم تكمل أي منها عاماً واحداً، فكيف تتحقق التنمية؟ لكن كيف تحقق الحكومة الكويتية الأغلبية في البرلمان؟ هذا سؤال. الكويتيون هم الأقدر على الإجابة عنه.

* كاتب قطري- بالمشاركة مع «الوطن» القطرية