أوهام الإحصاء

نشر في 13-11-2007
آخر تحديث 13-11-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

اقتصار الإحصاء على الجوانب الإجرائية للبحث يبدو أمراً مقبولاً، وأحياناً، يكون مطلوباً، لكن امتداد لغة الأرقام إلى النص الأدبي ذاته يحجب جماله ومضمونه الحقيقي في آن واحد، ويحوله إلى إحصاءات جافة، تصيب الأدباء أنفسهم، قبل القراء، بالاشمئزاز، والشعور التام بضياع النص الأدبي خلف ظلال الأرقام.

تجري على ألسنة المسؤولين في بلادنا دوماًَ عبارة تقول: «لغة الأرقام لا تكذب»، وهو قول خادع لأن الرقم هو أحد المؤشرات وليس كلها، حتى في أدق معادلات الفيزياء والكيمياء، لكن هذه المسألة لم تقتصر على السياسة والعلوم الطبيعية بل امتدت إلى أدق العلوم الإنسانية خصوصية، وأبعدها مكاناً ومقاماً من الأرقام، فقد استعمل عدد من نقاد الأدب وعلماء الاجتماع بعض الطرق الإحصائية (الكمية) في دراسة النص الأدبي، لكن هذا الاتجاه لاقى انتقادات شديدة من قبل العديد من الباحثين، الذين رفضوا هذه الاتجاهات التي تنزع عن الأدب ثوب جماله، الذي يميزه عن حقول المعرفة الإنسانية الأخرى، وتثقل كاهله بالمصطلحات التقنية المدرسية، تحت دعوى الجدية والصرامة العلمية مما يفقده صلته الحميمة بالحياة.

وفي هذا الصدد يقول «تشارلز ميلز»: «من الأصناف الأكثر انتشاراً بين العلماء صنف الإحصائيين المختصين، الذين يفتّتون الحقيقة إلى أجزاء دقيقة ويفقدونها قيمتها إلى حد يصعب علينا التمييز بين أجزائها، فهم في مقابل الحفاظ على دقة مناهجهم وصرامتها ينجحون في جعل المجتمع والإنسان تافهين، وهم خلال عملهم ذاك يفعلون الشيء نفسه بعقولهم».

ويؤيد «بوشمين» هذا الرأي، حين يؤكد «أن علم الأدب يتأبّى على الحلول الدقيقة ذات الدلالة الواحدة، ويرفض البرهنة الرياضية الصارمة، ولذا تظل الطرائق الكمية المستخدمة في «علم الأدب» مجرد وسائل ثانوية محدودة، لا يمكن تطبيقها بدورها إلا على مسائل خاصة، وهذا الاتجاه يعني في حقيقة الأمر تصفية علم الأدب، بوصفه علماً إنسانياً، وهؤلاء الذين يقولون إننا سنطهر قاموس الأدب من الثرثرة واللغو ونبعده عن ضباب الجمل والأوصاف الذاتية عن طريق العلامات والمبادئ الرياضية، لم يقدموا، حتى الآن، نتائج باهرة ومشجعة، وأطروحاتهم لا تعدو كونها استبدال لافتات بأخرى وإلباس القديم ثوبا من المصطلحات الجديدة، ولا تدل إلا على الاستسلام لطرائق العلوم الطبيعية».

ويشرح عز الدين إسماعيل هذه المسألة، بقوله: «إننا حين نقرأ العملية الحسابية 2 + 2 = 4، لا نستطيع أن نفهم منها إلا فهماً واحداً، ولن نخرج منها إلا بحقيقة واحدة، وهي حقيقة خالدة باقية، لكنها حقيقة جامدة لا مرونة فيها، بل فيها إصرار، نحن نذعن له. وهذه الحقيقة الثابتة لا نتفاعل معها، ولا تتأثر بها شخصياتنا، ولا تترك فيها أثراً، إنها شخصية ذات جانب واحد، إذا أمكن التعبير، ولكن العمل الأدبي شخصية متعددة الجوانب».

ويمكن في هذا المضمار ضرب مثال بالدراسة التي قام بها محمود الشنيطي لتحليل مضمون كمّي لبعض القصص القصيرة، التي تم نشرها في بعض المجلات المصرية الذائعة الانتشار في الفترة من فبراير 1957 حتى أكتوبر 1958، والتي وصفها بأنها «محاولة محدودة». فالباحث قام بتحويل هذه القصص إلى أرقام صمّاء، بدءاً بإحصاء عددها، حتى طبيعة موضوعاتها ونوعية أبطالها ومستوياتهم الطبقية، مروراً بزمان القصة ومكانها، من دون أن يعرّج على المضمون الكيفي لهذه القصص، فما كان منه إلا أن باعد بين النص الأدبي والقارئ.

وفي المقابل هناك دراسة مهمة للباحثة إلهام غالي حصلت بها على درجة الدكتوراه من السوربون عن موضوعي «الحرب والحب في أدب غادة السمّان»، زاوجت فيها بين الإحصاءات الرقمية الجافة والتطبيق الحيوي المرن لقواعد «سوسيولوجيا الخيال»، لكنها قصرت الجوانب الإحصائية على مسائل معينة، بعيدة عن النص الروائي لهذه الأديبة، مثل إحصاء عدد الروايات العربية التي دارت عن الحرب في عشرين عاما امتدت من 1956 حتى 1976، وحصر مختلف المقابلات الصحفية التي جرت مع غادة السمّان والأعمال النقدية التي تناولت نصوصها الروائية والقصصية، وعدد الطبعات التي صدرت لأعمالها، ودلالة ذلك، في ضوء مكانة الأدب بشكل عام لدى القارئ العربي، وأنهت الباحثة هذا الجزء الإجرائي بتصميم استمارة استبيان تشتمل على عشرين سؤالاً، طبّقتها على عينة مكونة من مئة شخص ينتمون إلى خمسة أقطار عربية.

واقتصار الإحصاء، هنا، على الجوانب الإجرائية للبحث يبدو أمراً مقبولاً، وأحياناً، يكون مطلوباً، لكن امتداد لغة الأرقام إلى النص الأدبي ذاته يحجب جماله ومضمونه الحقيقي في آن واحد، ويحوله إلى إحصاءات جافة، تصيب الأدباء أنفسهم، قبل القراء، بالاشمئزاز، والشعور التام بضياع النص الأدبي خلف ظلال الأرقام.

ومما يبرهن على صحة هذا الرأي أننا لو أردنا استخدام تحليل المضمون الكمي في البحث عن عدد تكرار كلمة «حرية» في نص أدبي أو فلسفي ما لإعطاء دلالة عن تبني كاتبه قيمة الحرية، فإن هذه المحاولة تبدو غير ذات جدوى، إذ إن الأديب قد لا يذكر هذه الكلمة صراحة، في الوقت الذي قد يسهب في طرح ما يدل عليها بشكل غير مباشر. فمن الممكن أن يستخدم الروائي والفيلسوف كائنات طبيعية معينة ليرمز بها إلى الحرية، مثل الطيور، وقد يعبر عن هذه الكلمة في مواقف معينة على ألسنة أبطال روايته، من دون أن يلفظ أي واحد منهم هذه الكلمة، وقد يستخدم الأديب العواطف الرومانسية ليدلل بها على المساواة الطبيعية بين البشر، إذ إن المشاعر الإنسانية، تكسر أحياناً، حاجز الطبقة والمستوى التعليمي، وهي كلها أشياء تفسدها الأرقام، فلا تنخدعوا بها.

* كاتب وباحث مصري

back to top