السقوط إلى الأعلى!
من الواضح أن مقولة إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس إلا صناعة غربية هي مقولة تسطيحية تغض النظر عن حقيقة ما جرى وكيف جرى؟ وهي مقولة تعكس حالة الإحباط وعدم التوازن والاستلاب الذي يعانيها العالم، كما أنها تعكس التوظيف السياسي للإعلان، فالواضح أن الإعلان قد شارك في وضعه ومناقشته الدول كافة، وربما يكفينا للتدليل على ذلك أن النص الأصلي للمادة 18 والخاصة بحرية الاعتقاد لم يكن يتضمن عبارة «حرية تغيير الديانة..» وأن الذي أضاف تلك العبارة كان المندوب اللبناني ومقرر لجنة حقوق الإنسان ونائب رئيس لجنة الصياغة ورئيس اللجنة الثالثة شارل مالك والذي لعب دوراً أساسياً ومحورياً في ظهور الإعلان، وهو دور لا يمكن اخفاؤه أو التقليل من شأنه فقد صدرت حوله ثلاثة كتب إحداها باللغة العربية واثنان بالإنكليزية.ويقول مالك، كما أكدت ذلك ماري آن جلندون أستاذة القانون بجامعة هارفارد، إن عنوان حقوق الإنسان كان يثير تحفظات الدول الكبرى لأسباب أهمها الرغبة في المحافظة على المكاسب الاستعمارية بالنسبة لبعضها الآخر، ويشير إلى أن السوفييت والأميركيين كانوا في عداد المتحفظين أول الأمر ولم يبادروا إلى تأييد عمل اللجنة إلا بسبب المخاوف من ظهور أشكال أخرى للتعصب العنصري في مناطق عدة من شأنها أن تفرز حروباً جديدة سيتعين عليهم كبح جماحها بالقوة قبل استفحال أمرها، كذلك فإن بريطانيا العظمى وغيرها من دول الاستعمار القديم كانت تعارض الشرعة لخوفها من ثورة الشعوب الخاضعة لاستعمارها، بل إن حتى اختيار السيدة إليانور روزفلت قرينة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت رئيساً للجنة حقوق الإنسان لم يلقَّ التأييد المطلوب من الحكومة الأميركية، ولكن مبادرة أكثر من 42 مؤسسة أميركية غير حكومية إلى تأييد ذلك الاختيار أدى إلى انصياع الإدارة الأميركية للأمر الواقع، هذا قبل أن تبدأ المصادمات الأميركية السوفييتية حول مفهوم تلك الحقوق خلال الصياغة. وربما كانت تلك المصادمات حول حقوق الإنسان بمنزلة النذر التي أسست للحرب الباردة بين الدولتين العظميين.
البداية الحقيقية لظهور الإعلان كانت في أبريل ومايو 1946 وذلك حين اجتمعت اللجنة التحضيرية لحقوق الإنسان، وعرضت توصياتها حول شكل ومهام اللجنة. وقد استلمت اللجنة آنذاك مشروعاً من دول أميركية لاتينية واستمعت إلى العديد من المنظمات غير الحكومية وأوصت بزيادة أعضائها إلى 18 عضواً وأن تضم في عضويتها منظمات غير حكومية، وقد وافق المجلس الاقتصادي والاجتماعي على الزيادة، ولكنه رفض عضوية المنظمات غير الحكومية، كما أقر توصية باعتماد التوزيع الجغرافي في العادل للدول في عضوية اللجنة وهكذا اعتمد المجلس عضوية كل من أستراليا وبلجيكا وبيلاروسيا والجمهورية الاشتراكية السوفييتية «قبل تأسيس الاتحاد» وتشيلي والصين ومصر والهند وإيران ولبنان وبنما والفلبين والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأوروغواي ويوغوسلافيا.وقد كان أن كلّفت اللجنة جون همفري سكرتير إدارة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إعداد مشروع أولي للوثيقة المطلوبة وقد أعد همفري وثيقة خطوط عامة إلا أن بريطانيا اعترضت على وثيقة همفري بسبب تضمينها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي مفاهيم طالما اعترض الغرب الرأسمالي عليها، إلا أن همفري من جانبه قد امتدح الوثيقة التي قدمتها بنما وغيرها حيث استخدم منها 13 مادة على الأقل، كما استخدم 8 مواد من وثيقة قدمتها لجنة العدالة الأميركية (وهي منظمة غير حكومية) وتتناول على سبيل المثال حقوق المواطنة واللجوء والرعاية الصحية والعمل المفيد اجتماعياً، وهي قضايا كانت الحكومتان الأميركية والبريطانية تعارضانها بشدة. ويشير جون همفري إلى أن الخطوط العامة للوثيقة التي قدمتها السكرتارية لم تحتوِّ على أي فلسفةٍ أو رؤية فلسفية، بل إن دور السكرتارية اقتصر على مجرد وضع أساس مساعد للنقاش. وكان أن تم تضمين الحقوق المذكورة في الدساتير والتشريعات المعمول بها في 55 دولة وكان بينها الدول التالية: أفغانستان والأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وبيلاروسيا والصين وكولومبيا وكوستاريكا وكوبا وتشيكوسلوفاكيا والدومينكيان والأكوادور ومصر والسلفادور وإثيوبيا وجواتيمالا وهاييتي وهندوراس والهند وإيران والعراق ولبنان وليبيريا والمكسيك ونيكاراجوا وبنما وباراجواي وبيرو والاتحاد السوفييتي وبولندا والمملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا وأوكرانيا وجنوب أفريقيا وأوروغواي وفنزويلا ويوغوسلافيا... بالإضافة إلى 14 دولة غربيةـ إن جاز التعبير أساساًـ وهي أستراليا وبلجيكا وكندا والدنمارك وفرنسا واليونان وأيسلندا ولوكسمبرغ وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة.يضاف إلى ذلك أن المشروع المتكامل الوحيد الذي تم اعتماده وقبوله كان مشروع قدمته بنما عن أميركا اللاتينية ساندتها فيه كل من تشيلي وكوبا (قبل وصول كاسترو للحكم بالطبع)، فالمشروع البريطاني تم تنحيته جانباً، كما أفاد جون همفري... فلماذا يصر بعضنا على أن الدول الغربية هي التي صاغت الإعلان، بالتأكيد فهي مسألة تحتاج إعادة نظر... وللحديث بقية.د. غانم النجار - نيويورك