Ad

لم أعرف ما إذا كان عرفات قد دفع المليون أم المليونين ولمن؟ ليطلق الخاطفون سراح الصحافي الأميركي تيري أندرسون، لكن ما أعرفه أنه بعد خروج أندرسون إلى الحرية بدأت المحادثات تحت الطاولة أولاً، ثم فوقها ثانياً بين ممثل عرفات والسفير الأميركي في تونس،فكيف يصر محمود عباس إلى اليوم على أنه «بطل» هذه المحادثات؟

إن سياسة التجويع والنفي والحصار يمكن أن تكون سلاحاً بيد «حماس»، لذلك فإن هذا النمط من التفكير عبرت عنه أوساط الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، فالنائب الجمهوري «مايك بنس»، وهو عضو تحترم آراؤه في اللجنة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشرق آسيا، انتقد خطوة حصار غزة عندما قال للصحافيين الأميركيين، وقد نشرت أقواله في 21-6- 2007 «من المفروض عدم الاستعجال في اتخاذ القرارات دون العودة إلى اللجنة، كي لا نقع في شر أخطائنا. يجب أن نأخذ الوقت الكافي لإعادة دراسة الأوضاع (يعني الفلسطينية) في ضوء سيطرة «حماس» على غزة».

بالإمكان تفسير قول النائب الجمهوري بأنه دعوة إلى تجميد وعود الإدارة الأميركية لعباس بإرسال الدعم المالي الكافي والاكتفاء الآن بالدعم السياسي والدبلوماسي، مع قليل من الدعم المالي، مما يعطي الانطباع بأن «حماس» قد تستغل هذا البطء أو عدم اتخاذ قرار الدعم وتنفيذه إلى الإسراع بدورها في تنفيذ خطة «غزو» الضفة الغربية التي يؤكد أنصار «حماس» أنها موضوعة سلفاً، وقبل السيطرة على غزة، وأنها «قابلة للتنفيذ في أي وقت». أنصار «حماس» يقولون إن الحركة بدأت تحركها باتجاه الضفة الغربية، في الوقت نفسه الذي استولت عسكرياً على غزة. وهدف «حماس» أن تضع محمود عباس وبوش أمام سياسة الأمر الواقع، وإذا فشلت في ذلك تكون قد بدأت هجومها الثاني بعد غزة تنفيذاً للمبدأ العسكري والسياسي معاً: «إن خير الدفاع هو الهجوم».

لقد بدأت أجهزة «حماس» الإعلامية والرسمية هجومها الثاني بالتركيز على شخصية الرئيس الفلسطيني المنتخب بأنه «الفلسطيني الأول المتعاون مع الولايات المتحدة» منذ زمن بعيد، هذا القول يحتوي على الكثير من المغالطات التاريخية، ففي مجال التعاون مع الولايات المتحدة فإن محمود عباس لم يكن المتعاون الأول في حلقة القياديين التاريخيين للثورة الفلسطينية منذ أن بدأت في العام 1965. فالرئيس الراحل ياسر عرفات هو أول من وضع خطة التعاون مع أميركا. كان ذلك في بداية الحرب الأهلية في لبنان، وبالتحديد في الربع الأول من العام 1978، فقد كلف عرفات علي حسن سلامة (أبو حسن) الاتصال بالأميركيين عبر مكتب المخابرات المركزية الأميركية في بيروت «C.I.A» وكان وقتها رئيس ما يعرف بـ«المكتب 17» وهو خليط بين ميليشيا عسكرية مسلحة وجهاز أمني مدني تابع مباشرة لأوامر عرفات، ولم تكن له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بـ«أبو أياد» المسؤول الأمني الأول لحركة «فتح».

العرض الذي قدمه سلامة لمسؤول مكتب الـ«C.I.A» في حينه هو استعداد عرفات للتعاون غير المشروط في مجال حماية موظفي السفارة الأميركية في بيروت، كان عرفات يرغب في أن «يجر رجل» واشنطن إلى حضن حركته، وأن ينشئ خط اتصال خفياً معها للاستفادة منه مستقبلاً على خطين: إظهار حسن نواياه كقائد للثورة الفلسطينية، وهذا هدف مستعجل، واقترابه شيئاً فشيئاً من واشنطن نظراً لإيمانه العميق بأن أي حل للقضية الفلسطينية لا يمكن أن يمر إلا عبر البوابة الأميركية.

مكتب الـ«C.I.A» في بيروت «بلع» بسهولة «طُعْمَ» التعاون الذي عرضه عرفات، وبدأ سلامة سلسلة اجتماعات مفيدة –للأميركيين طبعاً– مع مسؤول الـ«C.I.A». لكن سرعان ما قتل سلامة بسيارة مفخخة في وسط بيروت قبل أن تكتمل سلسلة اتصالاته مع الأميركيين، واعترفت إسرائيل بأنها وراء عملية الاغتيال، قيل وقتها إن اغتيال سلامة جاء تنفيذاً للبرنامج الإسرائيلي في التخلص من قادة المقاومة الفلسطينية وبصورة خاصة قادة فتح، لكن هناك أكثر من مسؤول فلسطيني كبير يؤكد أن إسرائيل اغتالت علي حسن سلامة لا لأنه «فتحاوي» بل لأنه استطاع أن ينشئ جسراً رفيعاً من الاتصالات مع واشنطن عبر جهاز «C.I.A». وهذا أقرب إلى الحقيقة من أي قول آخر. فإسرائيل كانت ولاتزال تعتبر أنها الابن الشرعي والوحيد للولايات المتحدة الأميركية، ومن الخطأ والخطر معاً أن ينافسها على ذلك أي ابن غير شرعي خاصة إذا كان فلسطينياً وينتمي إلى المقاومة.

هناك حوادث مماثلة أخرى، فقد اغتيل سعيد حمامي، مدير مكتب منظمة التحرير في لندن في أواخر السبعينيات، وكان حمامي يستكمل بنجاح الدور الذي لعبه من قبله علي حسن سلامة في إقامة جسور مع الأميركيين، لكن إسرائيل هذه المرة توصلت إلى اغتياله بأيدٍ فلسطينية بعد أن اخترقت منظمة صبري البنّا المعروف باسم «أبو نضال» والذي انشقّ عن «فتح» أبو عمار في بداية السبعينيات بتشجيع من صدام حسين، لقد ثبت في ما بعد أن «الموساد الإسرائيلي» اخترق منظمة أبو نضال على مستوى اللجنة العليا للعمليات في المنظمة وكان سعيد حمامي واحداً من ضحايا هذه اللجنة.

حادثة أخرى من المفيد ذكرها في هذا المجال، في العام 1985 خطفت جماعة قريبة من إيران الصحافي الأميركي ومدير مكتب الأسوشييتد برس «تيري أندرسون»، أطلق الخاطفون سراح تيري في العام 1991. في أواخر الثمانينيات، وقبل الإعلان عن الاجتماعات السرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في «أوسلو»، بقيادة محمود عباس زارت شقيقة أندرسون تونس حيث مقرّ قيادة عرفات في حينه واجتمعت به حول مائدة غداء حضرها أشخاص معدودون، وكنت أنا بين الحاضرين، طلبت شقيقة أندرسون، وكانت في العقد الخامس من عمرها، من عرفات أن يساعدها على إطلاق سراح شقيقها لأنه، أي عرفات، كما قالت هي، على علاقة جيدة بالقيادة الإيرانية. رغم أن عرفات كان يجيد إلى حد ما اللغة الإنكليزية، إلا أنه، ولسبب لم أعرفه، طلب مني أن أقوم بمهمة الترجمة. استمع عرفات إلى السيدة الجليلة طويلاً ثم قال لها في النهاية: «إنها مهمة صعبة، لكن أبو عمار يتغلب دائماً على الصعاب، قولي إن شاء الله». ثم وقف معلناً انتهاء المقابلة.

بعد خروج السيدة الأميركية الحزينة قلت لعرفات إن ما قاله لشقيقة أندرسون سيصل خلال نصف ساعة على الأكثر إلى السفارة الأميركية في تونس، رد عرفات بثقة: أعرف، قلت إن فحوى كلامك يدخل في إطار الوعد إذا لم تستطع الإيفاء به، فإنه يؤثر على مصداقيتك لدى الأميركيين. رد بشكل جازم: ومن قال لك إنني لن أنفذ هذا الوعد؟ العملية «إطلاق سراح أندرسون» لن تكلفني أكثر من مليون إلى مليوني دولار، وهو ثمن لا يذكر من أجل كسب ثقة بعض الأميركيين النافذين.

بعد هذه المقابلة وفي العام 1991 أطلق الخاطفون سراح تيري أندرسون، لم أعرف ما إذا كان عرفات قد دفع المليون أم المليونين ولمن؟ لكن ما أعرفه أنه بعد خروج أندرسون إلى الحرية بدأت المحادثات تحت الطاولة أولاً، ثم فوقها ثانياً بين ممثل عرفات والسفير الأميركي في تونس، بعدها بوقت قصير كشف الستار عن اجتماعات «أوسلو» مع الإسرائيليين برعاية الأميركيين، حيث يصر محمود عباس إلى اليوم على أنه «بطل» هذه المحادثات، بينما الواقع أن عرفات كان «أبوها» منذ لحظة انطلاقها في لندن، من دون معرفة الأميركيين، ووصولها إلى أوسلو بمعرفتهم ورعايتهم.

* كاتب لبناني