الانشغال بالآخر المتقدم قضية شغلت المثقفين والمبدعين العرب منذ أكثر من قرن، وأدت إلى انقسامهم إلى ثلاث مجموعات: الأولى انبهرت بالغرب المتفوق ودعت إلى تقليده أو الذوبان فيه، والثانية اتخذت موقفاً رافضاً وعدائياً مرسخة المثل الشعبي الذي يقول «لا شيء يأتي من الغرب يسرّ القلب»، والثالثة اتخذت موقفاً نقدياً يقول بضرورة الحوار والتأمل والدراسة والبحث عن الإيجابيات وأسباب التقدم والأخذ بها. وقد انعكس هذا الانشغال بالآخر الأوروبي خاصة على الأعمال الإبداعية لعدد كبير من الكتاب والشعراء.

Ad

 و«بابا سارتر» رواية للكاتب العراقي علي بدر، أصدرتها قبل أسابيع الهيئة العامة لقصور الثقافة «سلسلة آفاق عربية»، وعنوان الرواية يشير إلى جان بول سارتر وإبداعه الروائي والمسرحي والفلسفة الوجودية التي ازدهرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والرواية تتخذ من حقبة الستينيات إطاراً زمنياً لأحداثها الطريفة ومن بغداد مسرحاً لهذه الأحداث.

في البداية يحدثنا الراوي عن دجالين استأجراه لكتابة سيرة حياة فيلسوف الصدرية قائلاً: «الشيطان المدمر حنا يوسف حفار القبور ذو السحنة المرعبة وصديقته الخليعة التي كان يطلق عليها اسماً توراتياً غريباً «نونو بهار» هما من أغوياني بكتابة سيرة الفيلسوف العراقي الذي كان يسكن محلة الصدرية إبان الستينيات»... من البداية تضعنا الرواية أمام سطوة المال وصناعة النجم أو الفيلسوف وأتباعه أيضاً، فكل فيلسوف، كما تقول نونو بهار، أرعن وهناك أرعن يكتب كتباً تسهّل الأمر على الذين يكتبون سيرته، وهناك أرعن لا يكتب كتباً ويجبرنا على دفع المال لشخص ينقّب ويكذّب ويؤلّف ليصنع منه فيلسوفاً حقيقياً.

هكذا يجسد الكاتب بطله عبدالرحمن فيلسوف الصدرية سارتر العرب الذي أوفده سارتر لإنقاذ الأمة من حالة التشرذم التي أوقعها بها الخمسينيون والذي عاد من باريس بعد فشله في الحصول على شهادة الدكتوراه بسبب كسله وضعف لغته الفرنسية، مصطحباً زوجة باريسية كان عليها أن تتزوج شرقياً ثرياً كي تتخلص من مهنة الخادمة، ومن الكذب الذي يعدّ بطل الرواية الحقيقي تتشكل الأحداث والشخصيات، فعبدالرحمن العائد بفشله من باريس يعلل النفس بحياة فلسفية من دون الحصول على شهادة مطلقاً وعبارته الفلسفية الشهيرة «ما معنى الشهادة في عالم لا معنى له» والزوجة جيرمين تصبح بنت أخت سارتر التي يزهو بها والد عبدالرحمن قائلاً بزواج ابني من هذه الفرنسية صاهرت ديغول، وهذا الكذب سيختزل الفلسفة الوجودية في كلمة واحدة هي الغثيان «عنوان رواية سارتر» ليصبح الوجودي هو «الغثيانجي» والوجودية الكاملة هي الغثيان الدائم والمستمر من لحظة الميلاد حتى الموت.

 وبحسّه الساخر يواصل الكاتب تشكيل بطله المبهور بسارترالصورة والمظهر بكل تشوهاته وسلبياته ونواقصه «راح ينقل عينيه بين صورته المنعكسة على المرآة وصورة سارتر المعلقة على الحائط، فشعر بحزن طاغ»، كانت عينه اليمنى سليمة وعين سارتر اليمنى قد طالها العور، ورغم حلق شاربه وتصفيف شعره بطريقة سارتر فإن التطابق سيظل عصياً على التحقق طالما أن ذلك العور العظيم والمستحيل والفلسفي لا يمس عينه اليمنى.

 في الروايه لا وجود حقيقياً للآخر المتفوق أو الغربي، وبالتالي لا وجود لحوار أو صراع معه... من هنا لا تذكرنا الرواية بـ«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، أو «قنديل أم هاشم» ليحيي حقي، أو «أصوات» لسليمان فياض، أو «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.

فبابا سارتر روايه تنشغل بتعرية الذات وفضح وتجسيد الكذب والانسحاق وكشف الوهم المعشش في أذهان بعضنا، وهي لا تسخر أو تحاكم حقبة الستينيات بقدر ما تحاكم الواقع وتفضحه، فالرواية لا تنتهي بموت البطل فيلسوف الصدرية أو انتحاره بسبب خيانة زوجته مع خادمه، ولا تنتهي أيضاً بهذا الخادم الذي اغتنى بوسيلة ما، وقد حلق شعر رأسه وشاربه ووضع على عينيه نظارة داكنة، وتخلى عن اسمه واختار لنفسه اسماً جديدا «ميشيل»، والذي علق على الحائط صورة ميشيل فوكو، وهو يقول لم يعد سارتر مفيداً للثقافة العربية، العبث والغثيان لم يستطيعا حل مشاكلنا، والبنيوية هي التي ستحل هذه المشاكل، ثم راح يغوي الراوي بكتابة سيرة ميشيل بنيوي تماماً كما فعل حنا يوسف ونونو بهار عندما أغويا الراوي بكتابة سيرة وجودي الصدرية في بداية الرواية.

دائرة من الادعاء والكذب تفضي إلى دائرة أخرى لتواصل الرواية حتى بعد انتهائها تعرية الواقع والذات في خيال القارئ.

* شاعر وكاتب مصري