تجاوز الرابع عشر من آذار كونه مجرد ذكرى «انتفاضة الأرز»، من غير أن يعني ذلك التقليل من حجم هذا الحدث وانعكاساته اللاحقة. صورة «ساحة الحرية» التي جمعت أكثر من مليون لبناني للتنديد باغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، شعارات السيادة والحرية والاستقلال، الأعلام اللبنانية تظلل الجموع، ذكرى سمير قصير وجبران تويني ووعد بقادم أفضل لم يكن استشهادهما محسوباً من ضمنه! ذلك كله شكل التاريخ المذكور. لم تسر الأمور كما تمناها مرتادو ساحة الحرية، لكن هذا التاريخ لم يكف عن الفعل في ساحات أخرى حتى اللحظة.

Ad

مابعد الرابع عشر من آذار تشكل معنى جديد للشهادة في أوطان متخمة بالشهداء، عن حق أو عن باطل، المعنى جديد لأن شهداء الكلمة والقلم، لم يستووا يوما في القدر نفسه مع شهداء المقاومة والاحتلال، وبطبيعة الحال مع «شهداء» «الجهاد المقدس» من صانعي الموت ومحترفيه. للمرة الأولى منذ تفتح وعينا على القضايا الكبرى وحروب التحرير والممانعة والمقاومة، نشهد احتفاء نابعاً وعياً وضميراً، بأشخاص قضوا نحبهم فوق ورقة وقلم، وليس من وراء مدفع أو بجسد «مزنر» بحزام ناسف، وفي ساحة معركة أرضها مختلفة وخصومها مختلفون وكذلك أهدافها. أصبح هناك شهداء وشهداء، يقتضي الاعتراف بالأولين إنكار الآخرين، والعكس صحيح. للمرة الأولى تظهر ساحة الشهادة منقسمة على نفسها بهذا الشكل، وتغدو قيمتها بحد ذاتها محل إشكال وأخذ ورد.

وما بعد ذلك التاريخ، أصبح التجرؤ على نقاش ما اعتبر طويلا من المقدسات، أكثر اعتيادية. المقاومة التي كانت تحتل مرتبة القداسة بشكل مجرد، وبغض النظر عن حاملي لوائها ومتبني خطابها، أصبحت محل جدل في أوساط متزايدة. أصبح الحديث حول وسائل المقاومة وجدواها وتوقيت عملياتها والقائمين بها شيئاً مألوفاً ضمن الأوساط المثقفة والسياسية، وأكثر حضوراً ضمن الأوساط الشعبية.

أسلوب جديد لتصنيف المثقفين والسياسيين العرب نشأ أيضا، ولو من باب التفكّه. حسب الموقف من الأزمة اللبنانية وقضية المقاومة، يطلق على هذا المثقف أو ذاك السياسي لقب «14آذار» أو «8آذار». على الأغلب، الأولى تهمة وتشنيع، والثانية مديح وتزكية، والكناية عن «النيو ليبرالي، متأمرك» للأول، وتيار «الصمود والممانعة» للثاني. التصنيف فرض نفسه بقوة حتى في أوساط بعض المعارضات العربية، وسبّب داخلها إرباكات لا تحصى، وأدخلها في مواجهة مباشرة مع مبادئها وطروحها مما جعلها في موقف لا تحسد عليه في أحايين كثيرة.

الأكثرية والأقلية في لبنان انتقلتا بما ترمزان إلى الجوار وأبعد منه، بصورة معكوسة في أغلب الأحيان، جعلت من الأقلية أكثرية من غير أن تطغى على وجود الطرف الآخر. «الحياد» أصبح أكثر صعوبة، وحتى بعض المثقفين من أصحاب المواقف النقدية الذين لم يطرحوا أنفسهم كمؤيدين لأحد التيارين، لم يستطيعوا الفكاك من أسر ذلك التصنيف.

وبعد، فالأمور ليست بخير، الأوضاع في المنطقة أكثر تعقيداً واضطراباً من أن تنذر بخير قادم، حدة الاستقطاب الذي أدى ويؤدي إلى اتهامات متبادلة بالعمالة لطرف ما، واختبارات الوطنية التي تقاس بمقياس رمزية التيارين المتنازعين، ليست مما يمكن وصفه بالإيجابي. مع ذلك، فإن الحروب الكلامية بين السياسيين التي لم توفر بعض المثقفين والإعلاميين، استطاعت للمرة الأولى أن تخلق ساحة صراع يتجاذبها أكثر من رأي وفي المساحات التي كانت سابقا محكمة الإغلاق وعصية على التفكير. وهي بقدر ما حملت وتحمل تحريضاً واستقطابات طائفية بغيضة، لم تخل في بعضها من طرح عقلاني هادئ لقضايا طالما اعتبرت حقائق مطلقة، على الصعيد الشعبي والسياسي ومعظم النخب المثقفة بلا استثناء. وكأننا نشهد فوضى مصطلحات ومفاهيم ومبادئ لطالما كانت منسقة وموزونة وثابتة المحتوى والمعنى أو بدت كذلك. الرابع عشر من آذار وما تلاه، عجل في هذه الفوضى فأحل رموزاً محل أخرى وبعث الشك في قيم كانت حتى تاريخه متسامية وأثار اختلاف أولوياتها بعدما كانت في الصدارة. وهو قد أضعف من ممانعة الكثير من الأفكار وطرح أسئلة جديدة حول معانٍ من مثل الحرية والاستقلال، المقاومة والشهادة. وليست الأجوبة الجاهزة التي قد تطرح من هذا الطرف أو ذاك هي ما يهم، بل طرح السؤال نفسه المنفتح على نقد للواقع وحوامله الفكرية، هو ما يهم.

لعل هذا الطرح لا ينغلق على نفسه ويتآكل في معمعة السياسة وحسابات المنتصرين والمنهزمين على السواء، وألا يبتلعه تطرف المتنازعين من التيارين الذين علت أصواتهما حتى كدنا لا نسمع منها إلا ضجيجاً، فكأن صوتاً لا يعلو على صوت الضجيج.

* كاتبة سورية