حمزة نامة... ملحمة شعرية عن سيد شهداء الجنة
يحتل فن التصوير مكانة هامة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية وعلى عكس ما يتردد عن انصراف المسلمين والعرب عن ممارسة هذا الفن، فإن الواقع التاريخي يؤكد أنهم لم يتخلفوا عن اللحاق بركب الإبداع في هذا الفرع المهم من مجالات الفنون التشكيلية طوال الحقب الإسلامية، ومنح العرب فن التصوير الإسلامي مدرسته التصويرية الأولى التي تعرف في مؤلفات تاريخ الفن باسم «المدرسة العربية»، وتعد المخطوطات المزودة بتصاوير أنتجت وفقاً لتقاليد المدرسة العربية دليلاً ناصعاً على ذلك.
وفي هذه الحلقات ندخل إلى أعماق التاريخ من صفحات أشهر المخطوطات.احتلت شخصية حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة خاصة لدى المسلمين منذ صدر الإسلام، وكانت شجاعته وبسالته في القتال مضرب الأمثال، لاسيما بعد واقعة استشهاده في موقعة أحد وقيام هند بنت عتبة والدة معاوية بن أبي سفيان بمضغ كبده تشفياً ممن قتل أخيها صخر. ولا يمكن إغفال أن الاحتفاء بسيرة حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قد اتخذ في إيران والشرق الآسيوي بعامة صبغة سياسية على خلفية العداء للأمويين، إذ رغم إسلام هند وبقية البيت الأموي طفق معاوية يعرف لدى المسلمين المناوئين لنفوذه باسم ابن آكلة الأكباد.وفي الأدب الفارسي ظهرت قصة حمزة نامة على هيئة ملحمة شعرية تحكي عن بطولات سيد شهداء الجنة ولكنها في واقع الأمر لم تكتف بالأحداث التاريخية التي وقعت حتى استشهاده في غزوة أحد، وإنما راحت تضيف قصصاً وأحداثاً ذات طابع أسطوري وخرافي حتى ليعد حمزة في هذه الملاحم بطلا شعبيا انبعث من رحم الأساطير الآسيوية المشوقة بما فيها من معارك مع الجن والعفاريت.وفي بلاط مغول الهند، حيث استخدمت الفارسية لغة رسمية وأدبية، أعجب الإمبراطور جلال الدين أكبر «بحمزة نامة» ورآها بطابعها الأسطوري من مفردات جهوده لنشر ديانته التي ابتكرها تحت اسم «دين إلهي» للتقريب بين الأديان والمذاهب المنتشرة في شبه القارة الهندية، خاصة أنها كانت تتمثل في الحكايات الشعبية المعروفة هناك.وأمر الإمبراطور «أكبر» بعمل نسخة ملكية من حمزة نامة ليطالعها هو ورواد بلاطه، وحسب رواية أوردها أبو الفضل صديق أكبر ومستشاره ونديمه المقرب، فإن هذه النسخة التي عملت لأكبر في حياته كانت تحتوي على 1400 تصويرة ملونة، ولذا تعد هذه المخطوطة من حمزة نامة أضخم مشروع تم تنفيذه في تاريخ الحضارة الإسلامية لإنجاز مخطوط واحد، وقد استخدم القماش لتنفيذ الصور التي ألصقت على أوراق المخطوط.أما المصوران المسؤولان عن هذا العمل الهائل فقد كان المصور «ميرسيد علي» والمصور «عبد الصمد» وكلاهما من رسامي البلاط الصفوي في عهد الشاه طهماسب، وقد هجرا إيران عقب فتور حماس الشاه للتصوير والتحقا بالمرسم الإمبراطوري في بلاط أجرا.وقد لعب هذان المصوران دوراً أساسياً في وضع التقاليد الأولى لمدرسة التصوير الإسلامي بالهند والتي جمعت في رشاقة بين الاتجاهات الصفوية الإيرانية والمغولية الهندية. وكان حرصهما على كبر حجم التصاوير (65 سم × 50 سم تقريباً) مما يستدل به على أن رواد بلاط أكبر كان بإمكانهم رؤية التصاوير وهم جلوس على مقربة من الإمبراطور.ومن تصاوير هذا المخطوط واحدة توضح إحدى القصص الأسطورية الواردة في ملحمة حمزة نامة وهي واقعة هروبه من سجن في معسكر القوقاز.ويبدو حمزة في هذه الصورة مستريحاً في هودج تحرسه كائنات خرافية وعفاريت مُسخَّرة له وقد حمل الهودج بعيداً عن معتقليه. والمنظر عبارة عن خليط من الألوان الزاهية النابضة بالحياة والحركة الواقعية والملامح الكئيبة إلى حد ما.وتمثل الكائنات الخرافية في هذه التصويرة مزيجاً مثيراً من التخيلات الشعبية المرتبطة بالإسلام وكذا بالأساطير الآسيوية القديمة. فإلى جانب صور تمثل الملائكة المجنحين نجد استعراضاً شاملاً لأصناف الجن والعفاريت التي طالما تحدثت عن قدراتها ومواصفاتها الأساطير الآسيوية. إن مقارنة بسيطة بين تصاوير الجن هنا وبين تلك التي سجلها المصور الإيفوري التركي محمد سياه قلم قبل عهد أباطرة المغول بقليل تكشف عن أن هذه الصور لم تكن من ابتداع المصورين بقدر ما كانت استجابة أو صدى لحكايات سائدة في جوف آسيا.ونرى في هذه الصورة ألواناً مختلفة للجن والعفاريت فمنهم الجن الأحمر والأخضر والأزرق وبعضهم مرقط كالفهد ولكنهم يتفقون في أن لهم أجساداً آدمية ورؤوس حيوانات مختلفة ذات قرون وأن لأرجلهم مخالب.ومن تصاوير هذا المخطوط الذي أنجزت تصاويره نحو عام 973هـ (1565م) تصويره لإحدى مغامرات حمزة في القوقاز أو الحبشة وهي تمثله يصارع العفاريت.ورغم صغر حجم الأمير حمزة قياساً إلى خصومه من العفاريت فإن الصورة توضح ثباته وشجاعته ونجاحه أيضاً في إصابة أحدهم بينما يتصدى لآخرين يحتلان مقدمة الصورة.ويواجه حمزة بخنجر صغير في يده عفريتاً هائل الحجم له جسد آدمي مغطى بالشعر ولأصابعه مخالب كتلك التي للكواسر، وقد لون جسده بلون أزرق خفيف مع بعض البؤر الحمراء بينما يخرج له ذيل من أسفل المئزر الأحمر الذي يرتديه. ولهذا العفريت اللطيف رأس حيوان وناب بارز بينما يتطاير الشرر الأحمر من عينه وهو يحاول أن يصيب الأمير حمزة بترس له سلسلة حديدية يمسك بها ولم يفت المصور وهو ميرسيد على أن يقوم بزخرفة الترس ببعض الزخارف الهندسية.وتبدو هيئة العفريت هنا مختلفة بعض الشيء عن أقرانه فهو بلا أنياب وله وجه آدمي مع قرون خلف الرأس، وقد حرص المصور على تأكيد اقترابه من الموت وفقدانه قواه الخارقة بتلوين الشرر المنبعث من عينيه بلون أصفر داكن عوضاً عن اللون الأحمر.ومهما يكن من أمر، فإن مخطوط حمزة نامة يبقى شاهداً على عناية أباطرة المغول بفنون الكتاب وعنايتهم برعاية الفن الجميل والفنانين حتى أصبح بلاطهم في أجرا وغيرها من حواضر الهندستان قبلة للفنانين من كل حدب وصوب.