أثار نشر «وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» للدكتور سيد إمام الشريف جدلاً واسعاً عن مدى تأثيرها على الحالة الجهادية في العالم وبصفة خاصة تنظيم القاعدة الذي يعتبر الأكثر أهمية بداخلها. والحقيقة أن تلمس تلك التأثيرات المتوقعة يستلزم أولاً تحديد طبيعة الحدث الذي نسعى للتعرف على تأثيراته، فهو ليس مجرد الوثيقة المهمة التي ألّفها الرجل الذي كان أميراً لجماعة الجهاد المصرية والمنظر الرئيسي لفكر العنف بها، بل هو أيضاً موافقة وانضمام الآلاف من قيادات وأعضاء هذه الجماعة- عدا أفراد قلائل- ليس للوثيقة وحدها بل ولمجمل عملية المراجعة لما كانوا عليه من قبل فكراً وممارسة. بهذا المعنى فإن طرح المراجعات الفكرية والشرعية من هذا العدد من قادة ورموز الجهاد المصري والمشارك بعضهم فترات مختلفة في حالة القاعدة قبل تحولها إلى تنظيم وفيه بعد تشكله، وفي مقدمتهم الدكتور الشريف الذي يعد- ومن دون أي مبالغة- المنظر الوحيد للجماعة المصرية والأبرز للحالة الجهادية الدولية منذ سنوات تشكلها الأولى في أفغانستان، يمثل- بلا أدنى شك- ضربة موجعة يصعب الزعم بعدم وجود تداعيات ونتائج لها بداخل تلك الحالة وفي مقدمتها القاعدة.

Ad

فهذه المراجعات ووثيقة الترشيد تمثل التحدي الأكبر والأول من نوعه الذي تواجهه الحالة الجهادية العالمية وعلى رأسها تنظيم القاعدة من داخلها، فلم يسبق أن خرج من صفوفها أحد من قادتها أو رموزها المعتبرين مجاهراً بخلاف شرعي جذري مع رؤيتها وحركتها بالصورة التي تبدو عليها اليوم تلك المراجعات وهذه الوثيقة. نعم حدث أن اختلف بعض من هؤلاء مع بعض من الجماعات الجهادية بما فيها القاعدة أو مع بعض قادتها، ولكنهم لم يفعلوا سوى أن تركوها ولم يغادروا المعسكر الجهادي ولا أفكاره ورؤاه الأساسية. وليس صحيحاً هنا زعم البعض بأن تأثيرات كتابي الدكتور فضل الأولين «العمدة في إعداد العدة»

و«الجامع في طلب العلم الشريف» قد تراجعت بداخل الجهاديين الدوليين وأعضاء القاعدة، فهي لا تزال في مقدمة قوائم كتب الجهاد التي تنصح بها الجماعات الجهادية المختلفة أعضاءها بقراءتها، كما أن هناك من التسجيلات الصوتية على الإنترنت ما يؤكد أن الأخيرة لا تزال حتى شهور خلت تدرس الكتاب الأول لهؤلاء الأعضاء باعتباره- حسب شارحه في إحداها- «كتاباً كبير الفائدة في مجال الجهاد». وما يؤكد خطأ ذلك الزعم أيضاً هو أن أحداً من قيادات القاعدة وفي مقدمتهم بن لادن والظواهري لم يشغل مكانة الدكتور فضل بداخلها في مجال التنظير الشرعي لأفكارها وحركتها، وانه من غير المعروف عن أيهما أنه يحوز تلك الملكة والجل الأعظم من إنتاجهما المكتوب لا يرقى إلى مرتبة الفكر أو التنظير بل يدور أكثر حول الجوانب العملية والسياسية والتحريضية. كذلك فإن بعضاً ممن يعتبرون اليوم منظري الحالة الجهادية الدولية كانوا- كما تذكر مواقع الإنترنت الجهادية في سيرتهم الذاتية- من التلاميذ المباشرين للدكتور الشريف في أفغانستان مثل أبو مصعب السوري الذي يعد واحداً من أبرزهم.

إذاً، الحد الأدنى الذي يقبله المنطق في ما يخص تأثيرات المراجعات والوثيقة هو أنه ستثير ارتباكاً غير مسبوق في صفوف تلك الحالة الجهادية الدولية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة، وهو ارتباك يمكن أن يتطور إلى آماد أبعد ليخلق حالة من الاختلاف الحقيقية. والتعرف بصورة أدق على تطور الحالة الحالية من الارتباك يتطلب التمييز بين المستويات المختلفة للحالة الجهادية الدولية، ففي قلب هذه الحالة يبدو تنظيم القاعدة الأصلي «القديم» بقيادة بن لادن والظواهري هو مركزها بما يضخه لها من أفكار عامة ونماذج حركية وتنظيمية من دون وجود صلات مباشرة بينها وبينه. ويبدو المستوى الثاني ممثلاً في التنظيمات والجماعات الجهادية السلفية الجديدة الكبيرة والمتوسطة الدائرة في فلك القاعدة والتي باتت تمثل اليوم التهديد الحقيقي لكثير من المجتمعات والدول، والتي تمثل القاعدة الأصلية بالنسبة إليها مصدر الإلهام والتقليد واستعارة المسميات والمصطلحات وتقديم الولاء والبيعة ولو عن مسافات بعيدة. وهناك المستوى الثالث الذي يمثله الأفراد وبعض الخلايا والمجموعات الصغيرة الذين ينضمون إلى الحالة الجهادية تأثراً بالأوضاع السياسية العامة في العالم الإسلامي وفي بلدانها، وهم لا يملكون من الخبرة ما يمكنهم من أن يكونوا مصدراً حقيقياً للتهديد، ويسعى معظمهم إلى الذهاب لمناطق «الجهاد» الحقيقي للقتال فيها مثل العراق وأفغانستان حيث ينضمون إلى الجماعات الموجودة هناك.

وعلى مستوى الأفكار والنماذج الجهادية، يبدو واضحاً اليوم أن هناك تعدداً لمصادرها ومرجعياتها، من مؤلفين تراثيين وآخرين معاصرين متوفين إلى معاصرين أحياء، تمثل كتاباتهم ورؤاهم الإطار الفكري للحالة السلفية الجهادية الحالية على مستوى العالم. ويبدو واضحاً أيضاً في ظل ذلك أن تنظيم القاعدة الأصلي يعتمد أكثر في رؤيته النظرية على المؤلفين التراثيين والمعاصرين المتوفين وعدد قليل من المعاصرين الأحياء، في حين يزداد اعتماد التنظيمات والجماعات الجديدة على كتابات تلك الفئة الأخيرة أكثر من الفئتين الأوليين. من هنا فإن الأكثر ترجيحاً أن يكون التأثير المباشر لوثيقة ترشيد العمل الجهادي أكبر على القاعدة الأصلية منه على المجموعات والتنظيمات والجماعات الجهادية الجديدة، نظراً إلى معرفة الأولى أكثر بمؤلفات سيد إمام الشريف وتأثرها الواضح بها من الثانية التي يزداد تأثرها بأفكار منظرين آخرين من الجهاديين المعاصرين الأحياء. ومع ذلك فمن المتوقع أن يمتد أثر المراجعات المصرية والوثيقة الجديدة إلى كل من القاعدة القديمة والمجموعات والتنظيمات والجماعات الجديدة في الأمد القصير نتيجة للوزن الثقيل عالمياً للقيادات والرموز الجهادية السابقة التي تقودها بما يؤدي إلى حالة ارتباك واسعة في صفوفها جميعاً. أما الأفراد والمجموعات الصغيرة الأقل خطراً وحركية، فسيظل تأثرهم أقل بتلك المراجعات إلا من انضم منهم إلى القاعدة الأصلية أو الجماعات الجديدة فسيلحق بهم ما لحق بأعضائها من تأثيرات.

وهنا يبرز دفع مهم يسوقه بعض القائلين إن المراجعات والوثيقة لن يحدثا أثراً يذكر في الحالة الجهادية الدولية والقاعدة، وهو أن انتشار الأفكار والنماذج السلفية الجهادية على مستوى العالم خلال السنوات الست الأخيرة إنما كان نتيجة مباشرة لأوضاع واقعية يعيشها العالم وبخاصة البلدان المسلمة بسبب السياسات الأميركية والغربية العدوانية، وهي أوضاع غير مرشحة للاختفاء ومن ثم فلن يتراجع انتشار تلك الأفكار والنماذج لمجرد وجود مراجعات أو نشر وثيقة لترشيد الجهاد. والحقيقة ان الرد على تلك الحجة يتكون من شقين، الأول هو أن تلك المراجعات من الجماعتين الجهاديتين الأكبر والأقدم على مستوى العالم، أي الجماعة الإسلامية ثم جماعة الجهاد، يعد في حد ذاته واقعاً عملياً جديداً بكل مكوناته وليس مجرد حالة فكرية منعزلة عن الممارسة، وبالتالي فسوف يكون له بدوره تأثيره غير المنكور على الحالة الجهادية الدولية فكراً وعملاً بما قد يدفع بها إلى نفس المسار. ويتمثل الشق الثاني في طبيعة الحركات الإسلامية الدينية والجهادية خصوصاً، حيث يلعب العامل الفكري الشرعي دوراً مركزياً في توجهها نحو ممارسات العنف العملية تحت شعار «الجهاد»، وهي لا تقوم بأي من هذه الممارسات إلا بتوافر أساس شرعي مقنع لها، حتى لو لم يكن صحيحاً. ومن ثم فإن توجه عملية المراجعات عموماً ووثيقة الترشيد خصوصاً إلى هذا الأساس الفكري والشرعي بالنقد والتصحيح والترشيد سيكون له من دون شك آثاره على هذه البنية النظرية ومن يعتقدون صحتها بداخل الحالة الجهادية الدولية.