المعاهدة العراقية-الأميركية... من الاحتلال إلى الاحتلال! (1-3) الاحتلال العسكري والاحتلال التعاقدي
أخيراً وقّعت الحكومة العراقية على الاتفاقية الأمنية مع الولايات رغم بعض الممانعات الرسمية أو شبه الرسمية التي سبقت إبرامها، خصوصاً في ظل المعارضة الشعبية المتسعة، إلاّ أنها، ولاسيما أركانها الاساسية، لم تكن تعارض فكرة إبرام معاهدة مع الولايات المتحدة، إنما كانت تريد استثمار الوقت والمناورة لتحسين بعض هوامش أو شروط التفاوض، وقد يكون للظهور بمظهر الممانع أو الرافض أو المضطر، فتارة تقول إن المعاهدة ستخرج العراق من مظلّة الفصل السابع ووصاية الأمم المتحدة، وتارة أخرى خرجت علينا بتبرير حول إمكان إطلاق الأموال العراقية المجمّدة في البنوك الأميركية، وثالثة انتقدت الأطراف الرافضة كما فعل رئيس الوزراء نوري المالكي عندما قال إنهم عارضوا قبل أن يطلعوا على نصوصها وصيغتها النهائية، ورابعة تبرير انسجامها مع مبادئ السيادة وضمان مصالح البلاد بالانسحاب الكامل حتى نهاية العام 2011 والانسحاب من المدن والقرى والقصبات في موعد أقصاه 30 يونيو 2009، وكان الناطق الرسمي علي الدباغ قد صرّح بأنها أفضل ما يمكن، لكنها ليست معاهدة مثالية.أما الولايات المتحدة فقد حذّرت الحكومة العراقية من أن عدم التوقيع على المعاهدة سيؤدي إلى عواقب كارثية، كما جاء على لسان مايكل مول رئيس هيئة الأركان الأميركية، وأخيراً فإن الولايات المتحدة أخطرت الجانب العراقي بأنها قد تضطر إلى سحب قواتها، وعندها سيتعرض الوضع في العراق إلى انهيار متوقع محمّلة الحكومة العراقية مسؤولية ذلك، والنتائج التي سترتب عليه.
وأياً كان الأخذ والرد والشد والحل فإن الاتفاق تم التوقيع عليه من قبل وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري والسفير الأميركي رايان كروكر، وأن واشنطن استطاعت فرضه أخيراً باللين أو بالقوة، واضطرت الحكومة العراقية للموافقة عليه مختارة أو مضطرة، سواء جرى تعديله شكلياً أم لم يجر، كما كانت الولايات المتحدة تصرّ على ذلك وكما هددت، لأن البديل عن عدم توقيع الاتفاقية سيكون إما بقاء الحكومة العراقية وإما رحيلها. والحكومة العراقية نفسها تقول إن القوات العراقية غير مؤهلة لحماية الوضع الداخلي «ضد الإرهاب» أو الوضع الخارجي «إزاء اختراقات القوى الإقليمية».وبالمقابل فقد كان عدم توقيع الاتفاقية يعني بالنسبة لواشنطن اضطرارها لسحب قواتها من العراق، الأمر الذي سيعني انهيار استراتيجيتها في المنطقة ككل، لكن توقيع الاتفاقية سيضمن لها، بقاء قواتها بمسوّغ قانوني، بمعاهدة تريدها واشنطن تنفيذية، كي لا تعرضها على الكونغرس ولا يتطلب إبرامها حصول الرئيس بوش على تفويض جديد، مثل تفويض العام 2002 عشية غزو العراق، وهو الأمر غير الممكن حالياً، لاسيما بعد ورطة الولايات المتحدة في العراق، ولم يكن بإمكان واشنطن وليس مسموحاً لها إبقاء قواتها دون غطاء قانوني في العراق، الأمر الذي سيعرّض المسؤولين لمساءلات قانونية، وهي مسألة لا يمكن لأي إدارة أن تقدم عليها.لعل بعض القوى تراهن اليوم على باراك أوباما كرئيس جديد للولايات المتحدة، ولذلك كانت تريد إطالة أمد التفاوض على أمل تحسين شروطه، علماً بأنها في الوقت نفسه تتخوّف من سرعة رحيل القوات الأميركية، رغم أنه أمر مستبعدٌ سياسياً، فتوازن القوى لا يميل إلى ذلك، خصوصاً أنه سيعني خروج الولايات المتحدة منهزمة من العراق، وسيكون ذلك نجاحاً أو انتصاراً للإرهاب وتنظيمات القاعدة، لاسيما إذا انهارت العملية السياسية التي جرى تسمينها لخمس سنوات وثمانية أشهر، وإذا ما أضفنا عنصر المقاومة فسيكون للأمر أبعاد تتعدى حدود العراق لتصل إلى المنطقة وهو مسألة خطيرة لواشنطن.وهناك تساؤل مشروع يتعلق بموقف الولايات المتحدة، فهل ستترك «للذئب» المتربّص بالوضع العراقي حسب تقديرها: «قاعدة» أو مقاومة أو القوى المناهضة للاحتلال تحقيق الانتصار، الذي سيعني في مثل هذه الحال، الاستراتيجية الأميركية بكاملها التي ستكون قد أخفقت ليس في العراق فحسب، بل في عموم المنطقة، وسيكون ذلك إقراراً بواقع أليم قد لا يقل تأثيره على هزيمة واشنطن أمام هانوي في فيتنام، علماً أن عدوّها كان آنذاك، دولة عظمى هي الاتحاد السوفييتي، وليس تنظيمات «القاعدة» وبعض قوى المقاومة التي لا تحظى بدعم دولي. إن توازن القوى مختل بين طرفين: أحدهما محتل وقوي ويستطيع فرض إرادته وهو الولايات المتحدة، والآخر محتلة أراضيه وضعيف ولا يملك أوراقاً كثيرة للعب أو للضغط، فالوحدة الوطنية مفككة والانقسام والتشظي المذهبي والإثني يهدد كيانية الدولة، والإرهاب والفساد مستشريان على نحو لا مثيل له، والميليشيات والصحوات تتصرفان بمعزل عن الدولة وأحياناً ضدها، وهيبة هذه الأخيرة لاتزال مصدر شك وتصدّع!إن هذه اللوحة تفرض على الحكومة العراقية مرغمة القبول بشروط الولايات المتحدة، سواء تحت باب الواقعية السياسية، أو رغبة بعض القوى من البقاء في دست الحكم، لاسيما وقد فاز أوباما الذي وعد بانسحاب سريع، وليس كما تقول الاتفاقية إلى نهاية العام 2011، فيما إذا لم تطلب الحكومة العراقية تمديدها، حيث تعهد بتخفيض القوات الأميركية خلال النصف الثاني من العام القادم 2009 والانسحاب الكامل خلال 16 شهراً.من جهة أخرى فإن بعضهم كان يرتاب فيما إذا لم توّقع المعاهدة، أو أن القوات الأميركية ستضطر إلى الرحيل سريعاً، فإن ذلك سيغيّر من ميزان القوى لمصلحة إيران، وهي الأخطر على بعض القوى، التي قسم يشارك منها في الحكم وقسم منها في المعارضة، وهي معادلة متداخلة ومتناقضة، لدرجة أن هذه القوى تعتقد أن إيران هي أكثر خطراً من الاحتلال الأميركي، الذي هو صائر إلى زوال لا محالة.وحسب وجهة النظر هذه إذا كان نفوذ إيران حالياً غير مباشر، فقد يكون مباشراً بعد رحيل القوات الأميركية وفي حالة عدم التوقيع على المعاهدة، وبالتالي لا يمكن مقايضة الاحتلال الأميركي المؤقت بالنفوذ الإيراني الطويل الأمد، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة شاملة تتطلب الانسحاب الأميركي بوضع جدول زمني، وتعهد إيراني بعدم التدخل بالشؤون الداخلية العراقية، مع التزام عربي لاسيما من دول الخليج بدعم العراق وإعادة الإعمار.إن الولايات المتحدة حين حذّرت من مغبّة التردد والممانعة في إبرام الاتفاقية، لأنها لا تريد تراجعاً عن خطتها لغزو العراق وتحقيق مشروعها الإمبراطوري تحت يافطة ملاحقة «الإرهاب الدولي»، الذي كلّفها الكثير مادياً ومعنوياً، وبالتالي لا يمكن لها أن تترك الحبل على الغارب كما يقال، حتى إنْ كان الأمر يتطلب إجراء تغييرات للإتيان بطاقم عراقي جديد يستطيع قبول شروط الولايات المتحدة كما هي ودون تغيير، وهي تريد تحويل الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، بصيغة اتفاقية تنظم العلاقات والوجود العسكري الأميركي!!* باحث ومفكر عربي