أمضيت أكثر من 15 عاما وأنا أعمل في مجال الصحافة البرلمانية، وأحضر في قاعة مجلس الأمة بشكل مستمر، أتفحص خلالها الوجوه التي تتداول احتلال المقاعد الخضراء فيه، وأسمع الأصوات التي تمد ميكرفوناته وسماعاته بالحياة، وأراقب التحركات التي تشكل المواقف وتؤدي لرفع الأيدي بالقبول أو الرفض لتشكل جزءا كبيرا من القرار في البلد، وأعترف بأنني قد خُدعت أكثر من مرة بالصوت العالي والمواقف المصطنعة، التي جعلتني أناصرها وأساندها، وأحيانا أستميت في الدفاع عنها بالقلم واللسان.

Ad

وفي الفترة الأخيرة وبمحصلة خبرتي المتواضعة تلك، واطلاعي على خفايا الأمور، تغيرت نظرتي إلى أغلبية النواب في قاعة عبدالله السالم، وأضحوا، عندما أتطلع إليهم، شكلا واحدا، وهو شكل «نوط» من فئة العشرين دينارا «متكي» على كرسي أخضر، فمعظمهم انعكاس لمصالح المال وإن اختلفت الوسائل ولغة الخطاب (إسلامي، ليبرالي، قبلي، طائفي، مستقل)، فمنهم من يمثل مصالح المصارف والاستثمار، ومنهم من يمثل غايات أصحاب العقارات والمقاولات، وآخرون يمثلون تجار التجزئة والسلع المعمرة والمضاربات البورصوية، وبعضهم يمثل كل تلك المصالح مجتمعةً، وهناك أيضاً من أرسل ابن الطائفة أو العائلة أو القبيلة ليحصل على حصتها من ثروة البلد، فاللعبة إذن هي الحصول على أكبر حصة من «كيكة» المليوني برميل نفط التي ينتجها البلد يوميا، والمليارات المكدسة من فوائضها.

هذا لب الصراع في الكويت يا أهل الديرة، وصدق من قال: إنه الاقتصاد والمال ياغبي! ذلك الصراع الذي تفاقم بسبب وصول التناحر على المصالح إلى أقصى مدى له، والمال في القضايا الأبرز- الاستثمارات، الناقلات، المصفاة الرابعة، الداو كيميكال، خطة طوارئ الكهرباء، مصاريف ديوان سمو رئيس الحكومة، قانون الاستقرار وشراء المديونيات، الخصخصة، 145 تعديلا على قانون العمل في القطاع الأهلي لإفراغه من محتواه بسبب معارضة أرباب العمل دفع أجور إضافية ومستحقات مالية للعمالة الوطنية- هو القاسم المشترك بينها جميعا. فالمال هو المعضلة التي نعانيها، وإن كانت هناك قضايا جانبية تطرح كاستجوابات وخلافه فهي فعلياً أدوات تستخدم في الصراع لخدمة التسويق الشعبي لواجهاته النيابية، وخدمة المتنافسين على سلطة القرار التي تتحكم بأهم شيء وهو الثروة الوطنية السهلة والمتدفقة.

ومما يزيد من حدة ذلك الصراع وجود أطراف تمثل الأقلية التي تنفرد في ساحة العمل النيابي، لعدم إمكانية وصول من يمثل الأغلبية العادية إلى مركز القرار دون دعم مباشر من أحد محاور الصراع، ولن يستطيع أحد من هذه الأغلبية أن يفعل شيئا في ظل نظام الدوائر الخمس ذي التكلفة المالية الكبيرة اللازمة للترشح حالياً، بالإضافة إلى رفض هذه الأقلية التي تمتلك القدرات المالية سن قانون لتنظيم مصاريف الحملات الانتخابية وتقنين التبرعات والدعم للمرشحين للوصول إلى البرلمان.

وفي ظل هذه الحالة المزرية التي تتصارع فيها «كانتونات المصالح» تجد الأغلبية التي يمكنها التغييرغير معنية بصراعات الأقلية، وتتعامل مع الموسم الانتخابي وكأنه مناسبة اجتماعية وليس ندوة كبيرة لاتخاذ قرار مصيري لها ولأبنائها وأحفادها من بعدها.

وما يؤسف له هو بروز المجاملات والحسابات العائلية وأحيانا المصلحية الذاتية كعادة المجتمعات الأقل تطورا ووعياً، رغم علم الأكثرية بأن مصيرها مرهون بمن ستختاره، بل إن البعض يعلم أن غاية من سيختاره للمقعد النيابي يتطلع لخدمة مصالحه أو لخدمة من أوكله من أطراف ذلك الصراع المستعر في البلد.

ولذلك فإن لدي قناعة بأن «الأنواط» التي ستحتل المقاعد الخضراء بعد السادس عشر من مايو، لن تفعل في الغالب شيئا لكم يا أهل الديرة، فأنتم تختارون ما هو مفروض عليكم بقوة وسلطة «النوط» الذي سيظل أسيرا لمن أخرجه من جيبه، لتعود له بمزيد من أمثاله! وستبقى مصالح الأغلبية مغيبة حتى نعي يوماً تماماً أن الانتخابات هي موسم صنع قرار وليست مناسبة اجتماعية للتعارف أو للزواج ممن يترشح ليمثلنا فنتأثر بــ«كشخته» وثروته واسمه وفخامة مقره وحلاوة لسانه دون حوار جدي، ونخجل من تفحص شديد لأفكاره ونواياه الحقيقية تجاهنا وتجاه وطننا!

* النوط: الورقة النقدية «البنكنوت» باللهجة الكويتية.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء