بارانويا إسرائيلية وعربية
في ندوة «دافوس» الاقتصادية التي عقدت في الأسبوع الماضي، وضع رئيس وزراء تركيا أردوغان إصبعه على واحد من الأمراض الخبيثة التي يعانيها المجتمع الإسرائيلي عندما ردّ على دفاع بيريس عن مجزرة غزة، قائلاً إن ارتفاع صوت المتهم في الدفاع عن فعلته هو دليل إدانة وليس دليل براءة. هذا القول يتوافق مع آراء معظم علماء النفس في تحليلهم لنفسية القاتل أو القتلة، وما قاله أردوغان بلغة دبلوماسية يؤكد أن إسرائيل تعاني أمراضاً نفسية حادة وخطيرة، حيث باتت تشكل خطراً على المجتمع الصحي، ومن واجب هذا المجتمع أن يحمي نفسه من هذه الأمراض العدوانية القاتلة بشكل أو بآخر.من الأمراض النفسية المؤذية للغير التي تعانيها إسرائيل وباء الخوف الذي نـُشِر في منطقتنا من طنجة، على المحيط الأطلسي إلى عدن في الخليج العربي، ولعل الأكثر إصابة بهذا الوباء هي إسرائيل نفسها، والدليل على ذلك تصرفاتها العشوائية الخالية من أي عقلانية أو موضوعية، وإصرارها الشديد على التمسك بمواقفها في ابتلاع الأرض الفلسطينية وهضمها تمهيداً لابتلاع الأرض العربية الأخرى بمختلف الأساليب.
بعد 60 سنة من قضم جزء من الأرض الفلسطينية، لم تتمكن المعدة الإسرائيلية من هضم ما ابتلعته، فالمقاومة العربية منذ عام النكبة 1948 والتي أنتجت في الستينيات مقاومة فلسطينية، قرعت أجراس الإنذار بين الاستراتيجيين الإسرائيليين بأن وجود الدولة اليهودية هو وجود مؤقت مهما طال الزمان. فبالرغم من الحروب الكلاسيكية مع الجيوش العربية التي انتصرت فيها إسرائيل كلها، فإن الدولة العبرية لم تتمكن من كسر إرادة الشعوب العربية، وبالأخص الشعب الفلسطيني. وبين النكسة والأخرى كان العرب ينفضون عنهم غبار الهزيمة ثم يقفون على الأرجل وأصابعهم على الزناد بانتظار حرب أخرى وهزيمة أخرى، ثم تتلاشى آثار الهزيمة بعد فترة، والإحساس العربي بعدم الاستسلام للأمر الواقع بالقوة العسكرية يزداد صلابة ومتانة. وخير دليل على صحة هذا القول النتائج السلبية لاتفاقيتي السلام مع مصر ومع الأردن، فبالرغم من مرور حوالي ربع قرن على توقيع هذا السلام الرسمي مع الدولتين العربيتين، فإن إسرائيل لم تتمكن من تطبيع علاقاتها لا مع الشعب المصري ولا مع الشعب الأردني، ولا مع أي شعوب عربية أخرى، بل بقيت هذه الشعوب، بعناد وإصرار شديدين، خارج إطار سلام الأنظمة. هذا الأمر زاد من حجم كمية الخوف على المستقبل في جسم الدولة العبرية، ونتيجة لذلك سعت إسرائيل إلى مضاعفة قوتها العسكرية قناعة منها بأن هذه القوة تمنحها الأمن والأمان، وبالتالي تدفع العرب إلى الإحساس بالتعب والإرهاق فيستسلمون للأمر الواقع ولشروط المنتصر، وهذا قد سبق تطبيقه في مختلف الحروب التي خاضتها شعوب الكرة الأرضية منذ بدء التاريخ إلى الآن، لكن ما غاب عن الفهم الإسرائيلي حقيقة موضوعية، وهي أن ما ينطبق على شعب ليس بالضرورة يتلاءم مع شعب آخر، فهناك شعوب تقبل بالهزيمة وتتعايش معها ومع شروطها القاسية.ولكي لا نذهب بعيداً في تاريخ الحروب، فهناك مثال الحرب العالمية الثانية: فالشعب الالماني هُزِمَ وكانت النتيجة أنه قبل الهزيمة وتعايش معها ولايزال، وفي المقابل فإن الجيش المصري هُزِمَ هو الآخر في نكسة الـ67. ومهما كانت الانتقادات عنيفة، وفي معظم الأحيان ظالمة، ضد الجيش المصري وتصرفات قيادته السياسية، فإنه استطاع أن يقف على رجليه كجيش استعاد قدرته واستوعب السلاح التكنولوجي الحديث الذي حصل عليه في فترة «السلام البارد» مع إسرائيل، وهو اليوم، من الناحية العملية يُعتبر الجيش العربي الوحيد الذي يستطيع أن يقف في وجه طموحات العدو.إن اسرائيل، في قرارة نفسها اليوم تعترف بهذه الحقيقة، وتتمنى لو أن الرئيس المصري السابق أنور السادات لم يقم بزيارته التاريخية إلى القدس، حيث فتح أبواب «كامب ديفيد» وما نتج عن ذلك من سلام بارد لم تتخط حدوده قصر القبة الرئاسي في القاهرة، بل إن إسرائيل اليوم تضع الجيش المصري في خانة «العدو المحتمل جداً» الذي قد تواجهه في فترة زمنية مقبلة عندما تتصادم المصالح الإسرائيلية مع المصالح المصرية، وهذا التصادم لا بد حاصل إذا لم يكن اليوم ففي الغد أو بعد الغد. وفي ذروة الخوف الاسرائيلي الذي تحول إلى «بارانويا»، وهو مرض يجسد قمة الخوف والرعب، ويتحول إلى حالة مرضية نفسية من الصعب الشفاء منها، فلتت ألسِنـَة عدد من الساسة والقادة العسكريين الإسرائيليين حين أشاروا في مناسبات، كانت نوبات الخوف تشتد عليهم، إلى أن تل أبيب مازالت تضع القاهرة في لائحة الأعداء المحتملين، ولذلك فإنها رسمت الخطط العسكرية اللازمة لمواجهة هذا الخطر في حال حدوثه، ولا شك أن القاهرة فعلت الشيء نفسه.إن جراثيم وباء «البارانويا» قد تكاثرت وتضاعفت في الجسم الإسرائيلي نتيجة حرب لبنان العام 2006، فحاولت أن تستعيد «أسطورة الردع» في غزة، ولا يختلف اثنان من علماء النفس على أن ضربات الخائف المصاب بداء «البارانويا» تكون أشدّ وأكثر وحشية من ضربات غيره، بل هي دليل على فقدان الثقة بالنفس وعلى تفاعل وباء الخوف. هذا الأمر من شأنه أن يزيد الحالة الصحية سوءاً، لذلك من الواجب أخذ تهديدات إسرائيل، ما بعد فشلها في غزة، بالويل والثبور وعظائم الأمور على محمل الجدّ، وأن نحسب له الحسابات الدقيقة، ونضع الخطط الملائمة بعيداً عن «البارانويا» العربية التي بدأت تستشري هي الأخرى بين صفوف بعضنا.إننا اليوم أمام عدو مريض وصل إلى حافة الجنون نتيجة قناعته بأن العدّ العكسي لوجوده ربما قد بدأ، وأن عليه أن يفعل أي شيء لوقف دوران عقارب الساعة في عدّها العكسي، لذلك فهو على استعداد أن يخوض غمار تجربة تعريض وجوده إلى الخطر لإزالة جراثيم «البارانويا» من جسمه المريض.إن إسرائيل اليوم أمام مأزق وجودي كبير ساهمت هي في وضع حبال شراكه نتيجة جشعها وعدم فهمها لسيكولوجية الشعوب العربية التي لا تقبل الاستسلام في ظل القوة والبطش، فهي اليوم بحاجة ماسة إلى من ينقذها من نفسها، والغرب، بصورة عامّة، والولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة، أدركا هذه الحقيقة فسارعا إلى لعب دور الحامي والمنقذ.إن المبادرة العربية التي رفعت شعار «الأرض مقابل السلام»، التي تعيش أيامها الأخيرة، هي القشة التي يمكن أن تنقذ إسرائيل والمنطقة من الغرق في محيط من الخراب والدمار.أما «البارانويا» العربية فهي أقلّ وطأة من زميلتها الإسرائيلية حتى الآن على الأقل، فالخوف العربي اليوم نابع من حدوث الفوضى العارمة التي بدأت تباشيرها تتكاثر على الصعيد الشعبي، وإذا كانت إسرائيل بحاجة ماسة، اليوم قبل الغد، إلى من ينقذها من نفسها، فإن النظام العربي بحاجة إلى أكثر من ذلك. وهنا نقطة الالتقاء بين الاثنين في تلك المصيبة المشتركة «فالبارانويا» الإسرائيلية تشبه إلى حدّ بعيد تلك الموجودة في قصور بعض من يصنعون القرار العربي، والتفتيش عن «منقذ» هو هدف واحد موحّد ومشترك.* كاتب لبناني