لأن الدولة العبرية اكتسبت، وحيدة أو تكاد، زمام المبادرة في الشرق الأوسط وفي شأن صراعاتها فيه، فهي قد استحوذت تاليا على زمام المبادرة في خصوص عملية التفاوض، تقبل على هذا المسار وتُدبر عن ذاك، تُقرّب الفلسطيني أو تُبعد السوري أو تفعل العكس، أو تستفيق فجأة على اقتراحِ حلٍّ سامته إهمالا وازدراءً مديدين، على ما فعلت أخيرا مع ما يُعرف بـ«مبادرة السلام العربية»، تلك التي تقدمت بها السعودية ثم تبنتها الدول العربية ملتئمةً في مؤتمر قمتها في بيروت سنة 2002.
تنتقل الدولة العبرية بين تلك المسارات تنقل المطمئن المنفرد بالخيار، تئد بعضها أو تعيد له الحياة متى ما عنّ لها ذلك وارتأت، تستنفدها تباعا، تُقبل على التفاوض، تنازُلَ الحد الأدنى، يطلبه منها العالم فتسترضيه به دون أن تبذل الكثير أو ما تكره، وتجهضه في الآن نفسه بمبادرات على الأرض تفرغ مفهوم التسوية من محتواه، لا سيما إذا ما تعلق الأمر بالشق الفلسطيني. ذلك أن الإقبال على التفاوض يفترض قدرا من إكراه، ناجم عن شروط ميزان قوة بعينه أو عن ضغط خارجي، من قوى نافذة، معنية بصراع من الصراعات دون أن تكون بالضرورة ضالعة فيه على نحو مباشر أو «تقني»، والحال أن إسرائيل في حلّ من الإكراهين ذينك، أقله ما لم نُدخل في الاعتبار العامل الديمغرافي (ذلك الذي استجدّ أمراً ملحّا) وتوجس الدولة العبرية من التكاثر العددي للفلسطينيين، خصوصا بين ظهرانيها، أي داخل كيان سنة 1948.غير أن إسرائيل لا تتوخى التفاوض، مهما بلغ عقما ولا جدوى ظاهرييْن أو بالنسبة إلى الجانب العربي، من باب التلهّي أو من باب إشغال العرب والفلسطينيين بغث كلام السلام وزائف المرونة، بل إن التوخي ذاك، إنما يصدر عن عقل حديث ينشد، بصفته تلك، أقصى النجاعة مما يفعل أو لا يفعل. وهكذا، وعلى سبيل المثال، لم تكتف الدولة العبرية من تفاوضها مع الفلسطينيين باتخاذ ذلك التفاوض ستارا، تقوم من ورائه وتحت غطائه بنسف شروط التسوية نسفا يبلغ بهذه الأخيرة مبلغ الاستحالة والتعذر، فمثل ذلك مما قد لا تكون في أمسّ الحاجة إليه أصلا، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك، إذ تمكنت، على أقل تقدير، من إسباغ بعض اللبس على لا مشروعية ما تقترفه في الأراضي المحتلة ضمّاً واستيطاناً، ما دام استمرار السلطة الفلسطينية في التفاوض، بالرغم من تلك الاقترافات وفي ظلها، قد يكون نزع عنها سمة الفداحة أو جعلها أمراً نسبي الخطورة، هذا ناهيك عن أن تلك السياسة قد جعلت من الخلاف حول التسوية شأنا فلسطينيا داخليا، خالصا أو يكاد، بُعدا يغذي النزاع الدائر حربا أهلية بين «فتح» و«حماس».ما الذي تطلبه الدولة العبرية، استئناسا بتلك التجربة التفاوضية وبسواها من أوجه التعاطي الإسرائيلي، من سعيها المستجدّ والمفاجئ إلى بعث الروح في مبادرة عربية سبق لها أن وأدتها في المهد؟أول وأهم ما يمكن استخلاصه من متابعة تصريحات وأقوال المسؤولين الإسرائيليين في شأن تلك المبادرة، أنهم يريدون الفصل بين شقين فيها يراهما الجانب العربي متلازمين تلازما ضروريا لا يشوبه انفصام وما يمثل روح مبادرتهم السلمية، هما التسوية الترابية، أي الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة 1967، مقابل التطبيع الشامل.تبدو إسرائيل، من مقاربتها للمبادرة العربية، ساعية إلى نيل التطبيع الشامل دون بذل شيء، أو على الأقل دون بذل ما يرضي العرب والفلسطينيين، على صعيد التسوية الترابية، وذلك ما قد يكون مغزى دعوة رئيس الدولة العبرية، شمعون بيريز، وسواه من المسؤولين الصهاينة، إلى التفاوض على تلك المبادرة نفسها، وهي دعوة ترمي إلى جعل تلك المبادرة متماشية مع الفهم الإسرائيلي لـ«التسوية»: تلك التي تضمن احتفاظ الدولة العبرية بما ضمته من أرض، لدواع أمنية و/أو استيطانية، وإقامة «دولة» فلسطينية منزوعة السيادة، تمارس سلطاتها على السكان دون الأرض.لم يستجدّ، على صعيد ميزان القوة، ما من شأنه أن يدعو إسرائيل إلى التخلي عن مفهومها ذاك لـ«التسوية»، ما يعني أن إسرائيل ربما أضحت، من خلال استعادتها للمبادرة العربية، لا تستبعد بلوغ التطبيع الشامل، دون بذل الكثير، خصوصا ما امتنعت عن بذله حتى الآن وأصرّت وخاضت المعارك من أجل الحؤول دونه، على صعيد التسوية.وهي ربما صدرت في منحاها المستجدّ هذا عن مراهنة، هي تلك التي مفادها أن ما جعلته العقبة الفلسطينية متعذرا حتى الآن (نعني التطبيع الشامل)، قد يجعله الهاجس الإيراني وما تستثيره سياسات النفوذ التي تتوخاها الجمهورية الإسلامية، سعيها إلى امتلاك أسلحة الدمار وامتداداتها المذهبية-الإيديولوجية، أمرا قابلا للتحقيق في المتناول. أي أن المراهنة الإسرائيلية تلك ربما قامت على الاعتقاد بأن الدولة العبرية تلتقي، لأول مرة ربما، مع الدول العربية في تعيين ما يمكن اعتباره «خطرا وجوديا»، وبأن الشأن الفلسطيني أضحى، تبعا لذلك، ثانوي الأهمية قياسا إلى إلحاح ذلك الخطر الإيراني، حقيقيا كان ذلك الخطر أم لم يكن، وبأن ذلك من شأنه أن يفتح في وجه إسرائيل باب الانتماء إلى المنطقة، أقله كمجال استراتيجي، خصوصا أن لها في ذلك ما تقدمه: كونها الدولة الوحيدة، في الشرق الأوسط، التي يمكنها أن تستوي قوة نووية، موازية ورادعة لتلك الإيرانية المُزمعة.فهل أن الدولة العبرية بصدد استبدال مبدأ «الأرض مقابل السلام» بمبدأ آخر هو «الحماية (من الخطر الإيراني) مقابل السلام»؟ تلك فرضية يجدر ألاّ نستهين بها...* كاتب تونسي
مقالات
إسرائيل والتطبيع بأقل الخسائر
28-10-2008