في المقال السابق توصلنا إلى أن ما نحن فيه حاليا من «حوسة» وفوضى سياسية هو أحد مظاهر العبث السياسي الذي بدأ منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي على وجه الخصوص، وكان يهدف في الأساس إلى وأد النظام الدستوري الديمقراطي.
وفي هذا المقال سنتوقف سريعا عند شكل التحالفات السياسية التي تمت ومازالت مستمرة بين السلطة من جهة وقوى سياسية مناهضة فكريا للنظام الديمقراطي من جهة أخرى، لتبيان الدور الذي تلعبه هذه التحالفات في الأزمة السياسية التي نعيشها الآن.عشية الانقلاب الأول على النظام الدستوري في العام 1976 بدأ التحالف السياسي بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين، حيث شارك رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي السيد يوسف الحجي كممثل للإخوان المسلمين في حكومة «الحل غير الدستوري»، لهذا لم يعارض الإخوان المسلمون، في ذلك الوقت، عملية الانقلاب على الدستور الذي رافقته، على الضفة الأخرى، حملة تضييق واسعة على القوى الوطنية الديمقراطية، وتهميش لدورها بسبب موقفها الرافض للإجراءات الحكومية غير الدستورية، فحُلَّت مجالس إدارات النقابات العمالية وجمعيات النفع العام المعارضة، واعتُقِل قياديوها الذين ينتمون إلى القوى الديمقراطية التقدمية، وحُلَّ أيضا نادي الاستقلال، ولم يُعَد له الاعتبار حتى الآن رغم سماح الحكومة للقوى السياسية الدينية كافة (السنية والشيعية) بإنشاء جمعيات نفع عام تمثلها رسميا.كما عملت الحكومة، نتيجة لهذا التحالف، على توفير الأجواء المناسبة والمريحة لجماعة الإخوان المسلمين للعمل السياسي الجماهيري، فتوسع نشاط جمعية الإصلاح، وافتتحت لها فروعا في المناطق السكنية المختلفة، وتحولت المساجد إلى منابر سياسية «للجماعة» وازداد نشاط «الإخوان» بشكل ملحوظ في مدارس وزارة التربية، وفي التوجيه الإعلامي من خلال البرامج التلفزيونية والإذاعية التي كانت توفرها لهم وزارة الإعلام، فضلا عن القوة المالية الجبارة التي وفرتها الحكومة لهم بإنشاء بيت التمويل الكويتي الذي كان يتاجر بكل شيء من الإبرة إلى السيارة، ويمارس الأعمال المصرفية حاله حال أي بنك تجاري!! ثم اتسع نفوذهم وبسطوا سيطرتهم على الجهاز الإداري للدولة أيضا.وتحالفت الحكومة أيضاً، بالإضافة إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، مع «الجماعة السلفية» التي كانت ترفض في بداية إنشائها المشاركة السياسية «الانتخابات» وتعتبرها نوعا من أنواع «الكفر»، ومنحتهم، أي الحكومة، منذ بداية الثمانينيات جمعية أحياء التراث الإسلامي التي افتتحت لها فروعا في أغلب المناطق السكنية، مما ساعد على اتساع نفوذ «التجمع السلفي» الذي شارك ممثلون عنه في الحكومات المتعاقبة كافة، ومثل وجوده، ولم يزل، منافسة قوية لجماعة الإخوان المسلمين. وهكذا بدأت القوى الدينية السياسية لاسيما السنية (الإخوان والسلف)، منذ بداية الثمانينيات، بالدخول إلى المعترك السياسي وخوض الانتخابات البرلمانية تحت مبررات و« فتاوى دينية» مصلحيه متعددة، حيث إن القوى الدينية، بما فيها الشيعية، تتناقض فكريا مع النظام الديمقراطي، وتختلف ثقافتها وممارساتها السياسية اختلافا كليا مع النظام الدستوري الديمقراطي وهيكلية بنائه.ثم سرعان ما بدأت تروج لما أسمته «الصحوة المباركة» التي تبشر بفكر وثقافة وممارسات الجماعات السياسية الدينية، مدعية أن هذه «الصحوة» هي التي «ستنقذ» المجتمع من «الرذائل» وستطور البلد وتعجّل في تنميته. وها نحن الآن بعد ما يقارب الأربعين عاما من بداية التحالف السياسي مع القوى الدينية التي انتشرت أفكارها وثقافتها وممارساتها السياسية في مجتمعنا حتى وقتنا الحاضر، «نحوس» في هذه الفوضى السياسية العارمة، ونعاني تراجعا في مستويات المعيشة، وتخلفاً في البنى التحتية، وتردياً في الخدمات العامة، وانتشاراً لكل أنواع الفساد، فأين يا تُرى ما كانت القوى الدينية المتحالفة مع النظام «تبشرنا» به، منذ ذلك الحين؟ أليست المسؤولية عن هذا التردي العام تقع على كاهل هذا التحالف السياسي المستمر منذ منتصف السبعينيات رغم ما طرأ على شكله، في الآونة الأخيرة، من تغييرات طفيفة تمثلت في الخروج «التكتيكي» للإخوان المسلمين «حدس»، واعتماد صيغته الجديدة على الجماعات الدينية الأكثر تشددا وتناقضا «فكريا» في ما بينها في الوقت عينه، وهما التجمع السلفي وجماعة الائتلاف الشيعي القريب فكريا من «حزب الله»؟! لهذا فإن الأزمة السياسية سوف تستمر وتزداد تعقيداً لأن محاولات تجاوز الدستور لم تنته، والتحالفات السياسية التي رافقتها لم تتغير، فما نراه الآن من فوضى سياسية ما هو إلا نتاج لمحاولات وأد الدستور، ومظهر من مظاهر التحالف السياسي المستمر الذي نشأ على أثرها، وهو تحالف يتناقض، لطبيعة القوى المكونة له، مع النظام الدستوري الديمقراطي ويهدد بقاءه.
مقالات
الأزمة... ودور القوى الدينية
16-03-2009