لم يبق سوى أيام على انعقاد مؤتمر جنيف ضد العنصرية وهو مؤتمر خاص بمراجعة قرارات ديربن الذي انعقد العام 2001، إلاّ أن الاستعدادات العربية والإسلامية ليست بالمستوى المطلوب، في حين أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقوى الصهيونية العالمية كلها، مستنفرة لكي تتجنب ما وقع في ديربن من إدانة للممارسات الإسرائيلية العنصرية.

Ad

وكان الرئيس أوباما قد اعتذر عن حضور مؤتمر جنيف ونددت منظمات صهيونية ودولية كثيرة بالمؤتمر، لاسيما بوجود عضوين من دولتين مسلمتين هما ليبيا وإيران في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحكومي، وللأسف الشديد فإن بعض المنظمات الحقوقية الدولية، بما فيها الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان التي لديها عضوية عربية تشمل أمانتها العامة، سايرت مثل هذه الموجة مندفعة بالاتجاه الخاطئ والضار والمجانب للوظيفة الحقوقية التي تأسست من أجلها، وهو ما يذّكر بموقفها في مؤتمر ديربن حين حاولت «الموازنة» بين الضحية والجلاد، في سعي حثيث لمنع صدور قرار من المنتدى غير الحكومي لإدانة الممارسات الصهيونية ودمغها بالعنصرية.

وإذا كان العالم يشهد في شهر نيسان (أبريل) الجاري في جنيف تظاهرة حقوقية كبرى، وهو ما اصطلح على تسميته المؤتمر الدولي ضد العنصرية، فإن هذا المؤتمر هو مراجعة جديدة لمؤتمر ديربن ضد العنصرية. ومثلما كانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان قد أسهمت بجدية في التحضير لمؤتمر ديربن، فقد عقدت اجتماعاً أخيراً بالتعاون مع المجلس المصري لحقوق الإنسان في القاهرة بحضور خبراء وناشطين، إلاّ أن الاستعداد العربي بشكل عام ليس بالمستوى المطلوب.

ومن حيث الترتيب الزمني فإن مؤتمر جنيف هو المؤتمر الدولي الرابع ضد العنصرية، حيث انعقد المؤتمر الأول في العام 1978، أما المؤتمر الثاني فقد انعقد في العام 1983، وانعقد المؤتمر الثالث عام 2001 بعد انتهاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا في مطلع التسعينيات، وكان قد تقرر في التسعينيات تخصيص عقد لمناهضة العنصرية على المستوى العالمي بما فيها كره الأجانب والتمييز العنصري بأشكاله وصوره، وطالبت شعوب إفريقيا تعويضها عمّا لحق بها من غبن وأضرار بسبب استعمارها الطويل، وعلى الأقل تقديم اعتذار رسمي لها كما فعلت حكومة بلجيكا.

وإذا كان مؤتمر ديربن لاسيما منتدى المنظمات غير الحكومية قد اتخذ قراراً تاريخياً ولكن في ظرف تاريخي دقيق وحساس بإدانة العنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال التمييز العنصري بتأكيد نحو 3500 منظمة دولية حقوقية، فإن هذا الظرف قد تغيّر، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية الإجرامية واحتلال أفغانستان والعراق وإعلان الحرب العولمية ضد الإرهاب، وتصاعد موجة الإسلاموفوبيا «أي العداء للإسلام» وهو ما اندفعت فيه بعض الجماعات العنصرية في أوروبا ضد العرب والمسلمين.

وإذا كانت إسرائيل قد صُدمت في مؤتمر ديربن وفوجئت بحجم التنديد والإدانة الدولية بها وبممارساتها، الأمر الذي دفعها والولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي للتهديد بالانسحاب من مؤتمر جنيف (ديربن/ 2) بهدف إفشال المؤتمر فيما إذا تجرأ وأدان الصهيونية، فإنها احتاطت للأمر وعملت منذ ثماني سنوات وحتى الآن على تطويق آثار ديربن مستذكرة ما حققته من نجاحات بإعدام القرار 3379 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

كما سعت إسرائيل إلى عقد تحالفات وأسست منظمات غير حكومية جديدة، لكنها من حيث الجوهر منظمات صهيونية في عقيدتها وموالاتها لإسرائيل وتمويلها ودعمها، وعملت جاهدة للضغط على بعض المنظمات الدولية للتأثير على مواقفها، وللأسف فإن بعض العاملين من العرب في بعض هذه المنظمات، إمّا أنهم لم يحركوا ساكناً أو ساهموا بالتواطؤ حتى عن طريق الصمت حفاظاً على مواقعهم، وهذه قضية بحاجة إلى وقفة جدية للمراجعة والنقد.

لقد فشلت جهود إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وبعض المنظمات الدولية في ديربن في منع صدور بيان يندد بإسرائيل وبأعمالها العدوانية العنصرية، باعتبارها آخر محطة من محطات «الأبرتايد» على المستوى الدولي، الأمر الذي يجعلها تحتاط هذه المرة أكثر لكي لا تلدغ من نفس الجحر مرتين.

إن الاستعدادات الصهيونية التي استفادت من الحرب على الإرهاب وانشقاق الصف العربي والفلسطيني بما فيه المقاوم والرافض للاحتلال، وبالمقابل ضعف الاستعداد العربي على مستوى منتدى المنظمات الحكومية قياساً بتحضيرات «ديربن» الأولى فضلاً عن نكوص المواقف الرسمية، لاسيما أن الانشغال بنتائج العدوان على غزة مازال يستأثر بالكثير من الجهود الإدارية والفنية، والأكثر من ذلك، فإن إسرائيل والمنظمات الممالئة لها أو بعض الشخصيات التي تؤيدها شنّت هجوماً على الأمم المتحدة ومؤسساتها، خصوصاً بعد اتخاذ قرار بإدانة إسرائيل، «فجريمة ديربن الأولى» لم تغتفر ولن تنسى، وإذا لم يتم إعدام قرارات ديربن مثلما تم إعدام القرار 3379، فإن إسرائيل لن تهدأ ولن تستريح، وإن «ديربن» الذي وصف بكل الشرور والمساوئ، مازال ماثلاً، وهي تدرك جيداً أنه تهديد خطير «لشرعيتها» وبالتالي لوجودها!.

أما العرب فقد حصلوا على نصر سهل تحقق في «ديربن» وناموا بعدها، في حين أن إسرائيل استنفرت بكل ما لديها من قوة وحشدت لهذه المعركة الفاصلة في جنيف طاقات وكفاءات غير مسبوقة، حيث كلّفت مكتب محاماة مختص بتوجيه رسائل بأسماء المسؤولين الأوروبيين الذين شاركوا في «ديربن» أو الذين يمكن أن يشاركوا في مؤتمر جنيف القادم لشرح «المؤامرة المزعومة» على إسرائيل، بالضد من الدول العربية والإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات العربية والإسلامية التي تعتبرها متطرفة، وقد قام مكتب محاماة شانسي فيلموت في بروكسل بتكليف خاص في الحديث عن خطر جسيم سيترك آثاره على القوانين الجنائية الأوروبية، ويقصد بذلك فيما إذا أدينت الصهيونية بالعنصرية. ودعت بعض المنظمات اليهودية في واشنطن إلى مقاطعة مؤتمر جنيف، لأنها ترفض تلطيخ اسم أميركا بقرارات معادية للصهيونية، ونددت منظمة ايباك بالمؤتمر قائلة إن منظمة الأمم المتحدة تفتقد الموضوعية عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل.

وإذا كان هذا هو موقف إسرائيل واستعداداتها، فهل علينا أن ندرك أهمية هذا الحدث لتكوين تحالف مضاد لا فيما يتعلق الأمر بمؤتمر جنيف فحسب، بل بالكفاح ضد العنصرية، التي تعتبر إحدى تجليّاتها العملية الممارسات العنصرية الإسرائيلية!؟ وهل ستدرك الحكومات العربية أهمية المجتمع المدني ولا تنظر اليه باعتباره خصماً أو عدواً، لاسيما وهو اليوم وربما منذ سنوات يقود معركة ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة أمام بعض المحاكم الأوروبية!! مثلما قاد المعركة في ديربن وانتصر فيه حتى إن كان أعزل، وبلا أي إمكانات تُذكر، لكنه استطاع حشد طاقات مئات من المنظمات الحقوقية الصديقة، التي تضامنت معه على نحو غير مسبوق، ليعلن المجتمع المدني العالمي بصوت يكاد يكون موحداً إدانته لإسرائيل وممارستها العنصرية؟!

لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة، كانت قد سرقت الأضواء من الحدث المهم والمدوّي ونعني به إدانة الممارسات الإسرائيلية ودمغها بالعنصرية، الأمر الذي تحوّل من انتصار إلى نصف هزيمة، خصوصاً بتقاعس العرب، لاسيما الجهد وقد تم استغلال ما حصل ضد العرب والمسلمين وتصاعدت موجة العنصرية ضدهم في أوروبا والغرب عموماً، وكذلك موجة الإسلامفوبيا، التي صورت العرب والمسلمين باعتبارهم إرهابيين وأن دينهم يحض على العنف وأنهم مجبولون على ممارسته، واتخذت هذه الموجة من تنظيرات استراتيجيات ما بعد الحرب الباردة، لاسيما التي قادها فرانسيس فوكوياما ونظريته «نهاية التاريخ» أو صموئيل هنتنغتون ونظرية «صدام الحضارات» بوضع الإسلام في خانة العدو وتصنيف بعض البلدان باعتبارها دولاً مارقة، الأمر الذي اقتضى تطويعها وترويضها، واستخدام جميع الاسلحة للقضاء على الفاشية الاسلامية حسب تعبير الرئيس الاميركي السابق جورج بوش.

لقد تعلمت إسرائيل من درس ديربن فهل تعلّم العرب؟! وسيكون جواب ذلك من جنيف، رغم أن بوادر الصدمة بدأت منذ الآن!

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء