كانت أحدث مراحل الأزمة المالية منذ انهيار «ليمان براذرز» في سبتمبر 2008، تتسم بالخسائر المصرفية الضخمة والتهديد المستمر بانهيار البنوك. والحقيقة أن حجم الكارثة يثير التساؤلات حول ما إذا كانت البلدان الصغيرة قادرة حقاً على تحمل تكاليف إنقاذ البنوك.

Ad

بيد أن وصف «دولة صغيرة» يتغير على نحو مستمر: فمنذ بضعة أشهر، كان ذلك الوصف يعني أيسلندا، ثم أصبح يعني أيرلندا، والآن بات يعني المملكة المتحدة. إن عواقب الأزمة المصرفية تتطلب التفكير ليس فقط في الشكل الأنسب للتشريعات المصرفية، بل وفي الحجم المناسب للدولة، أيضاً.

كانت الشكوك تحيط دوماً بمسألة تحديد التصميم الأفضل للنظام المصرفي، وكانت المنافسة تدور بلا انقطاع بين ضروب مختلفة من التنظيمات المصرفية. فمن ناحية، هناك فكرة مفادها أن البنوك لابد أن تكون قريبة من المخاطر التي يتعين عليها أن تحكم عليها، وهي الفكرة التي رسمت هوية النظام المصرفي طيلة القسم الأعظم من التاريخ الأميركي. نشأ هذا المفهوم عن الصراع الجبار الذي خاضه أندرو جاكسون (الرئيس الأميركي ضد نيكولاس بيدل و «ساكند بنك» الأميركي (البنك الثاني- الذي أسسه الكونغرس عام 1816 كوكالة مالية حكومية تتلقى الأموال الفدرالية برأسمال 35 مليون دولار، وافتتح 25 فرعا، وأُغلق في عام 1936). وفي هذا الصراع تم تحريض الشعوبية ضد أهل المال، وكان الفوز للشعوبية. ونتيجة لهذا فإن أغلب بنوك الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر لم يكن له فروع، وكان نشاطه محصوراً داخل حدود الولاية التي ينتمي إليها.. وفي هذا الصراع تم تحريض الشعوبية ضد أهل المال، وكان الفوز للشعوبية. ونتيجة لهذا فإن أغلب بنوك الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر لم يكن لها فروع، وكان نشاطه محصوراً داخل حدود الولاية التي ينتمي إليها.

هناك توجه بديل تبنته كندا، التي كانت بفضل جذورها في الحكم البريطاني الواثق أقل خوفاً من المركزية السياسية، وكانت مستعدة للتسامح مع نظام مصرفي واحد يغطي البلاد بالكامل. ونجح النظام المصرفي الكندي الضخم في توزيع المجازفة على نطاق أوسع، وعمل على نحو أفضل أثناء موجات الذعر المالي، سواء في عام 1907 أو الفترة بين عام 1929 وعام 1933.

كان مبدأ البنوك الضخمة يتسم بعاملي جذب رئيسيين. الأول أنه وعد بالمزيد من الكفاءة في توزيع المجازفة، وذلك لأن البنوك الضخمة أقل عُرضة للتعامل مع نوع واحد من العملاء (على النقيض من البنوك الأميركية الريفية، التي كانت تعاني كلما عانى المزارعون الأميركيون). والثاني أن البنوك الضخمة تتسم بقدر أعظم من الكفاءة في التخطيط الاستراتيجي بعيد الأمد فيما يتصل بالاتجاه الإجمالي للاقتصاد الوطني أو حتى الاقتصاد الدولي.

ولكن البنوك الأضخم حجماً قد تتعرض للمتاعب إذا ما وقع خلط بين هذين المبدأين. ولقد بلغت فكرة البنوك الأضخم أوج نشاطها في أوروبا القارية، خصوصا في ألمانيا، التي تطور نظامها المصرفي الضخم من التمويل التجاري إلى التمويل الصناعي في أواخر القرن التاسع عشر.

في ذلك الوقت، كانت البلدان تتطلع باهتمام بالغ إلى النماذج المالية المعمول بها في أماكن أخرى. فبعد موجة الذعر في عام 1907، قرر الكونغرس الأميركي إنشاء لجنة النقد الوطنية، التي رأت أن النموذج المحتمل الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة للولايات المتحدة كان النموذج الألماني الذي اعتمد على البنوك الشاملة، والذي كان العمل به آنذاك مقتصراً على روسيا، واليابان، وإيطاليا، ومصر. وبحلول عام 1931 أصبحت بلدان العالم، وحتى بريطانيا، تجد صعوبة كبيرة في مقاومة النموذج الألماني. وقررت بريطانيا أيضاً إجراء التحقيق الرسمي الذي أسس لإنشاء لجنة ماكملان، للاستماع إلى الأدلة بشأن مدى عجز البنوك البريطانية عن خدمة الصناعة البريطانية، وكيف نجح النموذج الألماني في القيام بوظيفته على نحو أفضل كثيراً في تحويل المدخرات إلى تمويل صناعي.

ثم جاءت أزمة الكساد الأعظم لتقضي على موجة التقليد هذه، والتي بدا فيها النصر للبنك الشامل. ومن قبيل المصادفة المؤسفة أن لجنة ماكملان أصدرت تقريرها في الثالث عشر من شهر يوليو 1931، وهو اليوم الذي أفلس فيه البنك الألماني الشامل الأعظم نشاطاً آنذاك، وهو بنك دارمستاتر (Darmstädter Bank).

ولكن بحلول فترة تسعينيات القرن العشرين كانت موضة تقليد النماذج المصرفية الأخرى قد عادت من جديد. وكان بناء الإمبراطورية المالية سبباً في نشوء العولمة في أواخر القرن العشرين. وبدأ تسابق شديد في هذا السياق في أنحاء منطقة الأطلنطي المختلفة، وإلى حد أقل في منطقة المحيط الهادئ.

وكان التكامل التدريجي للسوق المالية الأوروبية الضخمة، وتأسيس البنوك الأوروبية عبر الحدود نتيجة لعمليات الاندماج، من الأسباب التي جعلت الأمر يبدو وكأن نوعاً هجيناً من البنوك الأوروبية الخارقة الجديدة في طريقه إلى الظهور. وعلى نحو مماثل، استجابت اليابان لأزمتها المصرفية بإنشاء مؤسسات مندمجة بالغة الضخامة، في حين قررت الولايات المتحدة إلغاء الكثير من تشريعات فترة الكساد التي كانت تقيد العمل المصرفي. وأخيراً، بعد أزمة البيزو في المكسيك أثناء الفترة 1994-1995 والأزمة المالية الآسيوية أثناء الفترة 1997-1998، صدَّرَت الولايات المتحدة نموذجها المصرفي الجديد إلى اقتصاد البلدان ذات الأسواق الناشئة. وانتقلت البنوك الإسبانية وبنوك الولايات المتحدة بكثافة إلى أميركا اللاتينية.

كان عامل الجذب هنا يتلخص في الفرصة لاكتساب رؤية استراتيجية جديدة، وكان أول من أدرك هذه الفرصة وعمل على ملاحقتها هو روبرت روبن، أولاً بصفته وزيراً للخزانة أثناء إدارة كلينتون، ثم باعتباره مستشاراً للعملاق المصرفي الجديد في الولايات المتحدة، «سيتي غروب»، والذي نشأ نتيجة لعملية اندماج في عام 1998.

ولكن البنوك الخارقة الجديدة كانت تعاني ضعفاً متأصلاً، وذلك بسبب التنوع والتعقيد الشديد لمعاملاتها المالية. وقبل نشوء مشكلة الرهن العقاري الثانوي بمدة طويلة تعرض بنك «سيتي غروب» للضرر الشديد بسبب سلوك سماسرته في لندن، والذين حاولوا استغلال سوق سندات الحكومات الأوروبية، وكذا بسبب سلوك سماسرته في طوكيو.

من الأبسط كثيراً بالنسبة لمؤسسات التصنيع العابرة للحدود الوطنية أن تطبق الضوابط اللازمة لضمان جودة منتجاتها. أما بالنسبة للشركات العاملة في الوساطة المالية فإن الأمر يختلف تمام الاختلاف، حيث قد تُتخَذ ملايين القرارات المستقلة في أيٍ من هذه الشركات، وقد تشكل عواقب هذه القرارات تهديداً خطيراً للشركة بالكامل.

يبدأ تبادل الاتهامات حين تفشل الاستراتيجية. من المعروف أن الدول الأوروبية التقليدية متوسطة الحجم لا تستطيع أن تتحمل تكاليف رؤية استراتيجية خاصة في تشغيل بنوكها. ولكن حتى بالنسبة للولايات المتحدة، فإن فكرة العالم المترابط التي ابتكرتها خطة أعمال «سيتي غروب» كانت باهظة التكاليف. ومكمن الخطر هنا أن ترى الحكومات، في اندفاعها نحو تأميم البنوك نتيجة للأزمة المالية، أن واجبها يملي عليها أن تفرض استراتيجياتها الخاصة.

إن الرؤية الاستراتيجية المتمثلة في اعتبار البنوك قادرة على صياغة الثروات الاقتصادية للبلاد، أو العالم أجمع، هي في الحقيقة رؤية معيبة ولا تقل سوءاً عن فكرة التخطيط الاقتصادي المركزي. وبهذا المعنى فإن الفترة بين عامي 2007 و2009 بالنسبة للرأسمالية تعادل فترة زوال الشيوعية بين عامي 1989 و1991.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في كلية وودرو ويلسون بجامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»