مرة أخرى أين وليد جنبلاط؟... أو الأصح: وليد جنبلاط إلى أين؟

Ad

جلسات مناقشة البيان الوزاري أظهرت أن ألسِنَة النواب لم تعبر عما في قلوبهم الملآنة. اختلف الخطباء على كل شيء تقريباً حتى على تسمية الحكومة التي باتت تحمل أسماء عدة ما عدا الاسم المطلوب، وهو حكومة الوحدة الوطنية. وجنبلاط أثبت مرة أخرى أنه «بيضة الميزان» في أي تركيبة سياسية مستقبلية، وهو دور يعشقه زعيم المختارة إلى درجة العبادة ولن يتخلى عن لعبه حتى اللحظة الأخيرة.

لم يكتف وليد جنبلاط بنشر «رسالة غفرانه» عبر الوسائل المتاحة كلها، بل ذهب إلى الأبعد عندما فتح خزانة ثيابه القديمة وارتدى «ثوب العروبة» الذي نسيه أو تناساه- كما قال هو بالذات- فترة زمنية ليست بقصيرة. كذلك لم ينس جنبلاط أن يلف رقبته بالشال الفلسطيني المرقّط الذي ورثه عن أبيه، والذي قدمه له في حينه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ومن خلال ارتداء ثوب العروبة مع الشال الفلسطيني، يأمل جنبلاط في أن يستعيد ماضي العائلة في حقل الوطنية والثورة والاشتراكية. وقد أدى ذلك إلى اختلاف في تفسير هذه الحركة وفي تحليلها لدى الخصوم والأصدقاء على حد سواء. منهم من قال إن زعيم المختارة عاد إلى ممارسة لعبته المفضلة في الانحناء للعاصفة والسير في اتجاه الرياح السياسية التي تخدم مصالحه، وان هذا ليس أكثر من تكتيك جنبلاطي قديم قد يتغير بتغيّر مجرى الرياح. وهؤلاء يرفضون المراهنة على موقفه النهائي مادام أن هناك رياحا، وطالما أن وليد أثبت أكثر من مرة أنه «يميل حيث تميل» هذه الرياح. ويعطي هؤلاء الدليل على صحة قناعتهم هذه بأن «النقد الذاتي» الذي مارسه جنبلاط على نفسه منذ أسبوعين أو أكثر، لم يصاحبه الابتعاد عن أصدقائه في تكتل «14 آذار»، وبالتالي الاقتراب من قدامى الحلفاء في «8 آذار» بل أصرّ على البقاء في منتصف دائرة الموالاة مع تغيير طفيف في استخدام العبارات قد يعني أشياء كثيرة وقد لا يعني شيئاً على الاطلاق. ومَن ينتقد ذاته اليوم فقد يقوم بالفعل نفسه غداً، ولكن في الاتجاه المعاكس.

وهناك من يقول إن «رسالة الغفران»، وما تبعها من تصريحات وخطب في أكثر من مناسبة شعبية، هي بالفعل «تكويعة» استراتيجية في الموقف الجنبلاطي، ولن يكون في مقدوره أن ينقلب على نفسه مرة أخرى وبالسرعة التي يتوقعها بعضهم، أما التزامه بتكتل «14 آذار» فهو من قبيل محاولة تحويل ما أمكن تحويله من مواقف هذه الكتل حتى تنسجم مع موقفه الجديد. وهكذا يبقى في حضن الموالاة وفي الوقت نفسه يصلح شؤونه المخرّبة مع حلفاء الأمس أعداء اليوم. وهذا الموقف، في رأي هؤلاء، سيستمر إلى ما بعد الانتخابات النيابية في ربيع عام 2009. والقاسم المشترك بين هذين التحليلين هو ان الفريقين امتنعا عن المراهنة على ما يمكن أن يكون عليه موقف جنبلاط النهائي.

مهما يكن من أمر، ومهما اختلفت التحليلات، فلابد من الاعتراف بأن جنبلاط أثبت أنه يملك قدراً كبيراً من الشجاعة السياسية دفعته إلى الاعتراف بالخطأ من دون العودة الفعلية عنه. وهي ميزة لم تستخدم مفرداتها في قاموس السياسة الخاص والعام في لبنان.

غير أن ما يلفت النظر إقدام وليد على نسف بعض جسوره مع الإدارة الأميركية الحالية عندما روى للملأ أنه خلال آخر زيارة له للولايات المتحدة، حيث اجتمع بكبار المسؤولين السياسيين والأمنيين، وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني (بقيت زيارته لتشيني خارج إطار تركيز الإعلام الأميركي)، «حرّض» على القيام «بعمل ما» للخلاص مرة نهائية من النظام السوري، لكنه فوجئ- كما قال- برد وزيرة الخارجية رايس: إننا لا نسعى إلى الخلاص من بشار الأسد، بل نتبع سياسة تحسين أدائه بشكل يتلاءم مع مصالحنا ومصالحكم في لبنان وفي المنطقة. ويقول جنبلاط إن جواب رايس كان نقطة الانطلاق في إعادة تقييمه لموقفه ولموقف زملائه في الموالاة. وفي طريق عودته من نيويورك إلى بيروت عرج على باريس، حيث التقى سعد الحريري وقدّم له الصورة التالية: الأميركيون يتخلون عنّا عندما تبدر أي إشارة إيجابية من دمشق مهما كانت صغيرة، فلماذا نقدم على الانتحار الجماعي مع أناس لم ولن يقدموا لنا سوى المساعدة الكلامية مع بعض القرارات والتصريحات في مجلس الأمن والأمم المتحدة.

ويقول جنبلاط أيضاً إن الحريري فوجئ بكلام رايس وأبدى استياءه هو الآخر، لكنه طلب منه أن يزور السعودية ويطلع المسؤولين على حقيقة قراءته للموقف الأميركي الجديد قبل الإقدام على أي خطوة «تكويعية» كاملة. كما اتفق الاثنان على أن يقود جنبلاط، في الوقت المناسب، حملة «التكويع» في حال إصرار الإدارة الأميركية على موقفها المهادن للنظام السوري.

هذا بعض ما ذكره وليد في «رسالة الغفران» و«النقد الذاتي». لكم ما لم يذكره علانية أكثر بكثير، فقد اعتبر أن دمشق مستعدة لإرسال إشارات إيجابية عديدة في اتجاه الولايات المتحدة، لكن بشار الأسد، نتيجة خطوطه المفتوحة تحت الطاولة مع الحزب الديمقراطي، لن يقدم على ذلك في ظل الإدارة الجمهورية التي لفظت أنفاسها الأخيرة، بل سيترك هذا الأمر إلى الإدارة الأميركية الجديدة ليقدمه هدية إلى الرئيس الديمقراطي أوباما في حال فوزه، فلماذا لا يفعل الشيء نفسه هو وسعد الحريري. ولدى موافقة الحريري على الخطوط العريضة لقراءة وليد جنبلاط أخذ على عاتقه اقناع حلفائه السعوديين بضرورة اتباع هذا المنطق السياسي السليم. وبذلك يكون جنبلاط قد حافظ على خطوطه مع الولايات المتحدة كدولة، ومع رئيسها المستقبلي، بالرغم من نسفه هذه الخطوط مع الإدارة القديمة التي تستعد إلى الرحيل. والحزب الديمقراطي لا يتفهم هذا الموقف فحسب، بل ويباركه أيضاً. وقد ضمن الحريري وجنبلاط ذلك من خلال اتصالاتهم غير العلنية مع عدد من أركان الديمقراطيين في واشنطن.

يبقى الموقف من سورية ومن «حزب الله»... والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المجال هو: هل ستأكل دمشق «الطعم» الجنبلاطي-الحريري الملمس، وبالتالي ما موقف «حزب الله»؟

بالنسبة إلى سورية التي لن يخفى عليها مثل هذه المناورات، فإن موقفها اليوم ضد جنبلاط قد ازداد وضوحاً وصلابة. إن مصادر مقربة جداً من رئيس المجلس نبيه بري (وربما بري نفسه)، ذكر أن دمشق قد أوصلت رسالة إلى جنبلاط عبره، مفادها أنها على استعداد لفتح حوار مع أي عضو في الحزب التقدمي الاشتراكي (رئيسه جنبلاط)، ولو كان هذا العضو هو وزير الدولة وائل أبو فاعور، الذي تنظر إليه دمشق نظرتها نفسها إلى جنبلاط، لكنها لن تحاور وليد شخصياً. غير أن دمشق التي تجيد لعبة الانقلاب على النفس لتحقيق أهداف سياسية قد لا يكون موقفها من جنبلاط هو الأخير، فسورية تحترف السياسة والاحتراف يتناقض مع المواقف المتشنجة الدائمة، بل يتطلب نضوج المعطيات المحيطة بها. والمواقف معرضة دائماً للتغيير والتبديل حسب ما تقتضيه في النهاية المصالح السياسية. ودمشق تفاوض اليوم العدو الأكبر إسرائيل تحت ضغط الظروف السياسية، فهل تنأى عن التحدث مع وليد جنبلاط، وبالتالي فتح صفحة جديدة معه إذا وجدت أن ذلك يخدم مصالحها. إن هذه النظرة السورية هي الورقة الرابحة في يد جنبلاط، هذا إذا أحسن استخدامها. وأما «حزب الله»، فإن جنبلاط يقول في مجالسه الخاصة: إن السيد حسن نصرالله طيب القلب، وقد أثبت أنه يغضب، ولكنه في النتيجة لا يضمر الحقد. وهذا يعني أن جنبلاط قد يجد في طيبة قلب نصرالله منطلقاً لإعادة المياه إلى مجاريها. وقد يكون جنبلاط على حق في نظرته هذه، لكنه في المحصلة النهائية ينسى أو يتناسى كعادته أن «حزب الله» ليس حسن نصرالله وحده. إن الحزب قيادة جماعية يؤمن معظم أفرادها بمنطق وقانون الثواب والعقاب، وإذا ما اضطر الحزب، تحت ضغط الظروف السياسية، وليس الانتخابية، إلى التعاون مع جنبلاط، فإن هذا التعاون سيكون من منطلق إعطاء الزعيم الدرزي حجمه الحقيقي في السياسة اللبنانية، لا الحجم الذي هو عليه اليوم، أو الحجم الذي يحلم به بعد الانتخابات النيابية المقبلة.

* كاتب لبناني