من إرهاصات ربيع براغ!
لم تُشغل الذكرى الأربعون لربيع براغ «الغرب»، مثلما شغلته ذكرى مرورها على مدى يزيد على عقدين من الزمان (1968-1989)، فالحدث الذي كان مناسبة للهجوم الإيديولوجي والدعائي، أصبح بعد انهيار الشيوعية الدولية شيئاً عابراً، مثلما تلقى «الغرب» أخيراً نبأ وفاة المثقف الروسي المعارض سولجنستين، حيث أقام الدنيا ولم يقعدها، حتى غادر الجحيم المشهود إلى «الفردوس الموعود» في السبعينيات من القرن الماضي.استذكرت بعض إرهاصات ربيع براغ وتأثيراتها على جيلنا، خصوصاً وأنها أثارت نقاشات حادة حول «الوجه الإنساني للاشتراكية» الذي نادت به حركة التغيير بقيادة دوبشيك. وكانت وكالة أنباء «شينخوا» الصينية قد ضجّت بالتنديد والسخرية من خطاب ألقاه نيكيتا خروشوف قبل ذلك بسنوات ردد فيه بدعابته المعهودة «الكولاج» (وهي أكلة مجرية مشهورة) الأمر الذي جدد الحوار بشأن «اشتراكية الرفاه أم اشتراكية البؤس!؟» أو على الطريقة الصينية «اشتراكية الكولاج»! كانت الغالبية الساحقة من التيار الماركسي واليساري مع «التدخل السوفبيتي» بدعوى «النجدة الأممية» باستثناء تململات واعتراضات لا تخلو من مشاغبة، تلك التي تركتها الهزائم والانشقاقات من جهة، والحركة الجيفارية الصاعدة في أواسط الستينيات من جهة أخرى، إضافة إلى المواقف المتميّزة للحركة الشيوعية واليسارية الأوروبية، لاسيما الفرنسية والإيطالية والإسبانية، التي نددت بالغزو السوفييتي. وقد جاء الحدث بعد عدوان 5 يونيو (حزيران) 1967 الذي شنته إسرائيل ضد الأمة العربية، الأمر الذي كان حاضراً بقوة في المساجلات والنقاشات الدائرة بشأن ربيع براغ والتدخل السوفييتي.
والسؤال الذي كان يُطرح بإلحاح: هل عبور نصف مليون جندي سوفييتي الحدود التشيكوسلوفاكية صبيحة يوم 21 أغسطس (آب) 1968 وقمع التظاهرات الاحتجاجية، التي اندلعت في براغ والمدن الأخرى كفيل بالقضاء على «الردّة» حسب التعبير السائد آنذاك؟ وإذا تجاوزنا على القانون الدولي باجتياح بلد مستقل بتبرير معاهدة حلف وارسو وحجة وجود طلب للنجدة، فلماذا يتم نقل القيادة التشيكوسلوفاكية إلى موسكو لتوّقع اتفاقاً هو بالمعايير كلها يشوبه الكثير من عيوب الرضا والإذعان؟ ثم مَن الذي سيحافظ على الاشتراكية ومكتسباتها... أليس الشعب التشيكوسلوفاكي وقناعته الحرة؟لم يكن دوبشيك هو أول من تصدى لمسألة الإصلاح، فقد سبق جوزيف تيتو الزعيم اليوغسلافي الذي اتهم بالتحريفية، وبعدها أعقبه انتفاضة المجر عام 1956، والتي تم قمعها بوحشية إثر الاحتلال السوفييتي للمجر. لم يكن خروشوف بعيداً عن النقد الشديد للستالينية ولعبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956، لكن محاولته «الإصلاحية» ظلت محدودة وفوقية ولم تتهيأ القناعات الكافية لانطلاقتها، وانغمرت هي الأخرى في الإدارة البيروقراطية. ولعل من المفارقة ذكر أن محاولات الإصلاح والتجديد بما فيها التي حدثت في الثمانينيات، وكانت أكثرها تأثيراً، رغم انكسارها ونكوصها، ترافقت مع اتساع النشاط الصهيوني الذي كان يستفيد من أجواء الانفتاح، وقد انتهت التجربة الأخيرة التي قادها غورباتشوف إلى تفكيك المنظومة الاشتراكية وتقسيم دولها بدلاً من إصلاحها وتجديدها، ناهيكم عن اتفاق بهجرة مليون يهودي سوفييتي إلى إسرائيل. عند وقوع الغزو السوفييتي استثيرت الشجون، خصوصاً أن مرحلة الستينيات شهدت حركة تجديدية ذات نبرة صاخبة، وهو ما عبّر عن الروائي والشاعر فاضل العزاوي، وكان العراق قد شهد حراكاً واسعاً ثقافياً وسياسياً، فقد حدث الإضراب الطلابي الشامل، الذي دام أسابيع (نهاية عام 1967 وبداية عام 1968) إضافة إلى اتساع التطوع للعمل الفدائي الفلسطيني، وقد راقب كثيرون نقاط الائتلاف والاختلاف مع التجربة الفرنسية الجماهيرية (الطلبة والمثقفون) التي شهدها شهر مايو (أيار) 1968. كان التيار السائد لا يناقش في «اليقين الأممي» باستثناء الموجة الجيفارية الصاعدة وانعكاساتها على العراق والعالم العربي، لاسيما في الوسط الثقافي، وقد تم تنظيم الوفود لشرح وجهة النظر الأممية إلى جهات مختلفة. ومن الطريف أن تكون السفارة التشيكوسلوفاكية في بغداد ضمن دائرة الاهتمام، فقد زارهم وفد لإقناعهم بأهمية وضرورة التضامن الأممي، وإذا به يكتشف إدانة شديدة للغزو واحتجاجاً ضد السوفييت والمطالبة بالجلاء من بلادهم. يومها علق الصديق لؤي أبو التمن الشخصية الوطنية العراقية المرموقة: «لقد ذهبنا لإقناعهم، لكنهم أقنعونا حسبما يبدو»!! وقد أثار هذا الأمر تساؤلات جديدة لدينا حول أممية الموقف السوفييتي أم تسلطيته؟ وهي مواقف سبق أن ناقشناها مراراً لاسيما بعد عدوان 5 يونيو (حزيران)، مستذكرين بتذمر شديد واحتجاج لا يخلو من انفعال أحيانا موقف الاتحاد السوفييتي من قرار التقسيم. وتساءلنا عن مدى تأييد الشعب التشيكوسلوفاكي للنجدة «المزعومة»، وذلك بناءً على أخبار نقلتها الصحافة عن مواجهة الدبابات السوفييتية الغازية بالصدور العارية. وكان العراق كدولة قد اتخذ موقفاً مؤيداً للغزو السوفييتي، وهو ما جاء على لسان الرئيس أحمد حسن البكر الذي قال «المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية»، ولعل بعضهم اعتبر أي اعتراض أو تشكيك هو موقف أقرب إلى» العدمية الأممية» في حين أن البرجوازية الصغيرة وجناحها الحاكم، حسب توصيفات تلك الأيام، قد حسمت موقفها بالوقوف مع التضامن الأممي.بعد نحو عام (خريف عام 1969) زرت براغ قادماً من بغداد في طريقي إلى مدينة كراكوف (بولونيا) لحضور ندوة تحضيرية للاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاد لينين(22 نيسان/ ابريل/1970)، وحاولت أن استفسر لاسيما من أصحاب الشأن، خصوصاً وقد مكثت فيها عند عودتي من كراكوف نحو أسبوعين، عن طبيعة الأوضاع، لاسيما أن مظاهر الرفض والاستنكار للوجود السوفييتي تجدها في كل مكان، وقلت مع نفسي إذا كان كل هؤلاء ليسوا مع الغزو وليسوا مع النظام الذي جيء به، فمَن يا تُرى معه؟ وكان الجواب أكثر إثارة للشك من إلى الإقناع:«إن العمال في المعامل والفلاحين في التعاونيات هم الذين رحبّوا بالنجدة الأممية وإنهم يؤيدون النظام القائم!، وتلك حجة طالما كررتها الأنظمة القمعية والاستبدادية جميعها دليلاً على شعبيتها المزعومة»! بعد ثلاثة عقود من هذا الحدث كنت أيضا بمحض الصدفة في براغ (1989) يوم اصطف مئات الآلاف من التشيكوسلوفاكيين، وكأنهم يجيبون على سؤالي المؤجل، والذي ظل يكبر معي... كانوا يطالبون بالحوار والحرية والتعددية، وهي شعارات تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها كسرت حاجز الخوف، فنهار النظام سريعاً، وقد كان سارتر قد وصف الأنظمة الاشتراكية البيروقراطية، بأنها قلاعٌ محصنة كما يبدو وأنت تنظر إليها من الخارج، لكنها هشّة و منخورة من الداخل.يومها احتار صديقنا السفير الفلسطيني النابه سميح عبد الفتاح (أبو هشام) بين متطلبات الوفاء للأصدقاء القدامى، لاسيما من الذين دعموا القضية الفلسطينية وبين استحقاقات التغيير القادمة، تلك التي كانت قراءتها عصيّة على الفهم أو التقدير قبل انهيار جدار برلين وبدء مرحلة جديدة! كانت كلمة مثقف تعادل شتيمة خالصة في ظل الرطانة السياسية السائدة آنذاك، على حد تعبير الروائي التشيكوسلوفاكي الأصل ميلان كونديرا فهي تعني عدم إدراك كنه الحياة والعزلة عن الشعب، ولعل جميع الذين تم شنقهم من رفاق لهم نعموا بتلك الشتيمة، دليلاً على ضعفهم وهشاشتهم وسرعة تعرضهم للعطب، فالشك والارتياب والمؤتمرات والدسائس الداخلية، ناهيكم عن السعي للانفراد بالسلطة والسرية والاتهام بالخيانة أو التعامل مع العدو كانت وراء الصراعات الدراماتيكية الانقلابية في قيادة الأحزاب الشمولية، لاسيما الحاكمة منها. لقد أطاح ستالين بأركان قيادته الواحد تلو الآخر، وحمل نعوشهم إلى المقبرة، رغم أنهم كانوا يهتفون بحياته حتى لحظة إعدامهم، وبكى صدام حسين بعد أن أرسل إلى الموت بضربة واحدة ثلث قيادته القطرية وعشرات من الكوادر القيادية البعثية، وخَلَفَ تصارع « القبائل الماركسية» في اليمن الجنوبية 13 ألف جثة، وحين اقتتلت «أخوياً» بيشمركة الحزبين الكرديين تركت وراءها أكثر من ثلاثة آلاف ضحية! لكن ماكينة الدعاية مثلما هي ماكينة القمع كانت تدور سواء بالتمجيد أو التنديد، أم بالتقديس أو التدنيس، وتارة تنقل من التعظيم إلى التقزيم، وحين خلع كليمانتس وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا الأسبق قبعته ووضعها على رأس زعيم الحزب غودوالد الذي كان منهمكاً في إلقاء خطاب في ساحة ستاراميستكا ناميستي (ساحة المدينة القديمة)، انشغلت أجهزة الدعاية والإعلام بنقل الصورة الحميمة والرفاقية، لكن بعد أربع سنوات لم تشفع له تلك اللفتة الإنسانية لحماية رأس الزعيم من هطول الثلج، ففقد رأسه، ومرة أخرى حشدت أجهزة الدعاية والإعلام جهودها كلها لتثبت تهمة الخيانة بحق كليمانتس، وشطب اسمه وصوره من الأرشيف، في حين ظلت قبعته وحيدة!لعل ماحصل خلال العقود الأربعة الماضية كان أحد إرهاصات ربيع براغ، التي كانت تعبيراً عن أزمة حقيقية فكرية وسياسية واقتصادية بعد أن وصلت التجارب الاشتراكية إلى طريق مسدود، الأمر الذي يستوجب مراجعة شاملة وإعادة نظر في الكثير من الجوانب النظرية والعملية، لاسيما التي عفا عليها الزمن، فهذه مسألة ضرورية لاغنى عنها، لاسيما بعد الاخفاقات المريرة، وبهدف الإبقاء على جوهرها الإنساني حياً واسترشاداً بالمنهج وأداة التحليل، وليس بكونها مجموعة قوالب أو صيغا جامدة أو مقولات مقدّسة، لدرجة تحوّلت إلى لاهوت أو تعاليم أقرب إلى التعاويذ والأدعية، وهو مايتناقض مع فكر رواد الاشتراكية الأوائل!* كاتب ومفكر عراقي