يجتمع أهل الاقتصاد والمال في منتجع دافوس السويسري الفخم في مثل هذا الوقت من كل عام، ودافوس هذا العام، وبعد الكارثة الاقتصادية العالمية، أصبح كالمصحة الاستثمارية الاقتصادية «الإسعاف المالي» للأزمة الراهنة، أما أطباء المصحة فهم رجال الاقتصاد والمال والنخبة الاقتصادية القادمة، والملفات المرضية ما هي إلا برامج التحفيز الاقتصادي المختلفة.
وفي نظرة إلى خارج المنتجع، تجد المتظاهرين بشعار جديد هذا العام، اتهموا من خلاله رواد دافوس بأنهم بعد أن أشعلوا نيران الأزمات المالية، أتوا اليوم مرتدين زي رجال الإطفاء.وعودة إلى المنتدى فإنه لم يكن كالأعوام الماضية، حيث طغت خلافات «أهل السياسة» على «أهل الاقتصاد»، فالجدال حول تدخل الدولة، وكيفية إصلاح النظام الرأسمالي احتدم في أغلب ورش العمل، والحوار السياسي الغاضب الذي جمع الرباعي بيريز الإسرائيلي، وأردوغان التركي وموسى العربي، وبان كي مون الكوري «العالمي» كان كفيلا بإثبات أن السياسة مازالت تحاول تعطيل ما قد يصنعه الاقتصاد.ومن الخلاف السياسي إلى الخلاف الاقتصادي، فالصين التي حضرت بقوة هذا العام، أثار نظام أسعار صرف عملتها قضايا خلافية بين الخبراء الاقتصاديين وراسمي السياسات الاقتصادية، فهل ترفع الصين أسعار عملتها أم أن ارتفاع العملة في ظل الركود يعتبر انتحارا اقتصاديا (طبقا لتقارير جي بي مورغان) كل ذلك شبّ في غياب التفاؤل عن المنتدى.الجميع يتحدث عن ضعف الثقة في مشاريع التحفيز المالي التي أقرتها الدول الصناعية الكبرى، للتخفيف من حدة الأزمة، ولاحتواء مخاطر الانكماش، وتبددت الآمال في إنفاق الدول الفقيرة والغنية على استراتيجية عامة لمواجهة الأزمة، وغابت فنون إدارة الأزمات المالية، والاستعداد لمراحل ما بعد الأزمة.وفي نظرة سريعة إلى جهود الدولة المضيفة، نجد أن الأدوار تقاسمتها القوى السياسية السويسرية، فاتحاد النقابات طالب بإقرار استثمارات عمومية بقيمة 5 مليارات فرنك، وتمديد فترة البطالة الجزئية، وعقد ندوة وطنية حول الأزمة تفاعلا مع مؤشرات الكساد الاقتصادي القادم، ومنذ أن بدأت الأزمة تضرب الاقتصاد السويسري والتشاؤم في الأرقام التقديرية Forcasting مستمر، فالناتج الداخلي قد يشهد تقلصاً يقدر بـ2.1% ولن تزيد نسبة النمو عام 2010 على 0.3%، وسترتفع البطالة إلى 4.5%، والسؤال هنا هو: هل تتدخل الدولة بـ%1 من إجمالي الناتج؟كنت قد أشرت في مقالات سابقة إلى غياب دور المراكز البحثية الاقتصادية والمالية في رصد الأزمات واقتراح الحلول، فسويسرا لديها مركز الأبحاث الاقتصادي التابع للمعهد التقني الفدرالي واتحاد النقابات الذي يقوم بالدراسات الخاصة للخروج برصيد إيجابي من حزمة تحفيز الاقتصاد... فالصحف السويسرية اهتمت بمتابعة البرلمان بغرفتيه، والذي وافق على الخطة الحكومية وإنقاذ الاقتصاد كاهتمام الصحافة الكويتية على إبراز الضجيج البرلماني على صفحاتها الأولى.والبنك الوطني السويسري- رغم ارتفاع أصوات اليسار بضرورة إرفاق الدعم بضمانات مالية أكثر صرامة، وأن الأزمة سببها جشع بعض «ميسوري الحال» لاقتصاد الكازينو، وغياب الرقابة الفاعلة- وصف الحزمة بأنها انتهاك لمراسيم الطوارئ للدستور السويسري، التي وضعت عام 1939، وفي النهاية استطاع البرلمان أن يرغم مديري القطاع المصرفي الذي تلقى الإعانة على إعادة العلاوات والمنح الضخمة التي تلقوها.وخلاصة الأمر أن منتجع النخبة الاقتصادية لم تكتمل حلاوته إلا بالضجيج البرلماني... وإن كان سويسري النكهة. وللحديث بقية.
مقالات
عندما حضر أهل الاقتصاد وغاب التفاؤل!
03-02-2009