مع سارود أمجد علي خان

نشر في 10-07-2008
آخر تحديث 10-07-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم من مهرجان لندن الموسيقي انتخبتُ أمسيةً موسيقية استثنائية، فالقاعةُ المُنتخبة في قصر «مانسيون» في قلب لندن تحفةٌ فنية بالنوافذ المزجّجة بالرسوم، والمنحوتات اليونانية الطابع، تحيط الحضور من كل جانب، ثم ان العرضَ الموسيقيّ خلطةٌ مغرية من الموسيقى الكلاسيكية الغربية، والموسيقى الكلاسيكية الهندية، والأهم من كل هذا أن نجمَ الفاعلية الموسيقية هو عازف «السارود» أمجد علي خان، الذي سيقدم فيها عملاً جديداً من تأليفه تحت عنوان «ساماغان».

أكثر من عنصر مغر لقضاء ساعتين من الزمان نافعتين. فأنا مفتون بالموسيقى الكلاسيكية الهندية منذ سنين، افتتاني بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. أتتبعُ خطاهما متأملاً وكاتباً. وبرنامج الأمسية يتضمن الكونشيرتو الثالث من تحفة باخ «براندِنبيرغ»، وواحداً من كونشيرتات التشلو لفيفالدي، يتوسطهما عزف أمجد خان لـ«راج» Raga قديم. وبعد الاستراحة ينفرد الموسيقي الهندي بتقديم عمله الجديد، بصحبة الأوركسترا الاسكتلندية تحت قيادة ديفيد مارفي. اختيار العملين الغربيين كان مقصوداً، لتسليط الضوء على العنصر المشترك بين موسيقى العالمين المتعارضين: وهو عنصر الارتجال، أو التوفيق بين عنصري الإبداع الإرتجالي التلقائي والبنائي المدروس. فعملا باخ وفيفالدي يتمتعان، في أجزاء منهما بحرية الارتجال هذه، تُترك للعازف، تماماً كما تتمتع الموسيقى الهندية، حيث يُشكل الارتجال عنصراً أساساً في معمار «الراج».

أمجد علي خان (مواليد 1945) أبرز عازف على آلة السارود Sarood، بل يشكل السارود إرثاً مُحتكراً لعائلته، تتوارثه أباً عن جد. وهو يمثل الجيل السادس من العائلة التي ترجع جذورها إلى أفغانستان، حيثُ جاء جده الثالث محمد هاشمي خان بهذه الآلة، وكانت تُسمى رباباً.

الآلة (وتعني في الفارسية اللحن أو الغناء) بعد أنْ كانتْ تعتمدُ ضرباتِ الوتر المتقطّعة Staccato، صارتْ تعتمدُ اللحنَ الغنائيَّ المقاربَ للحنِ الحنجرة البشرية، بتأثير رقاقة خشب الساج التي تُشكل بناءها، وطبقة الجلد التي تغلّفه. وليس مفاجئاً أن تجد العازف، في أي حين، وقد أقحمَ حنجرتَه باللحن المشترك مع الوتر المغني. أمرٌ في غاية الإثارة، في هذه الموسيقى الرفيعة التي ولدت من رحم الهند، مع تأثيرات أفغانية فارسية، تحت رعاية الحضارة الإسلامية السمحة.

المُدهش في إسلامية هذه الموسيقى، أن عائلاتها المتوارثة ذات طبيعة إسلامية غاية في الانفتاح والرحابة، حتى لتجد المغني أو العازف يقبل على النص أو الصنف الموسيقيين بدافع روحي واحد، بغض النظر عن انتساب هذا النص وهذا الصنف إلى الموروث الديني الإسلامي أو الهندوسي.

العملُ الطويلُ الذي يمتدّ ساعةً من الزمان، والذي قدمه أمجد علي خان في النصف الثاني من الحفلة، كان بعنوان «ساماغان»، وهو مصطلح ديني هندوسي يعني اجتماع القديسين أو صحبتهم. وهو اجتماعٌ يأمل الناس بحدوثه، ففيه مسرةُ اجتماع شمل العقول النورانية، الحكيمة والرائية، بُني هذا العمل الشرقي الغربي بناء الكونشيرتو، حيث تنفردُ آلةٌ أساسيةٌ واحدة هي السارود (هنا بصحبة آلة الطبلة وعازفها البارع تالولكار) في مواجهة حوار درامي مع الأوركسترا.

واضح أن الأوركسترا هنا، في هذا العمل، لا تصارعُ الآلةَ المنفردة، بل تحاورها حواراً فيه شيءٌ كثيرٌ من الانقياد والمحاكاة، وكأنها تعرف مقدار حميمية هذه الآلة الوترية وضعفها بالتالي، في مقابل القوة الكاسرة للاوركسترا. والطبلة، وهي في الموسيقى الهندية الكلاسيكية آلةٌ لحنية، لا آلة ضبط إيقاع فقط، عادة ما تشكل عونا مؤثراً للسارود. ولكي تثبت هذه الجدارة تُمنح فرصةً تنفردُ فيها بالعزف المُرتجَل.

بين ارتجال «ساماغان» الهندي وارتجال «براندِِنبيرغ» الغربي شيءٌ من نسب. ولكن هناك نسباً آخر أكثر حضوراً، يتعيّنُ في عنصر التكرار الذي يُشبه دوّامةً لحنية دون مُستَقر. فاختيار أعمال من مرحلة الباروك، التي تُعنى كثيراً بهذا العنصر الزخرفي، ملائمٌ تماماً. وملائمٌ أيضاً طقسُ الهيبة الذي يصطنعه الجمهور أمام شعائر العزف الكلاسيكي، غربياً كان أو شرقياً.

back to top