الـمَدافع والذهب في أغسطس

نشر في 11-09-2008
آخر تحديث 11-09-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت قدمت الصين وروسيا للعالم أخيراً مثالاً للتباين الصارخ في استخدام القوة. ولقد عبر المحلل السياسي الفرنسي دومينيك مويزي عن الأمر أخيراً فقال: «بينما تعتزم الصين إغواء العالم وإبهاره بعدد ميدالياتها الذهبية الأوليمبية، تريد روسيا أن تذهل العالم باستعراض تفوقها العسكري- قوة الصين الناعمة في مقابل قوة روسيا الخشنة». ولقد استنتج بعض المحللين الأميركيين، مثل إدوارد لوتواك، أن إقدام روسيا على غزو جورجيا يثبت أن القوة الناعمة أصبحت «عديمة القيمة»، وأن الغلبة باتت للقوة العسكرية الخشنة. بيد أننا سوف نتبين في النهاية أن القصة أكثر تعقيداً بالنسبة لكل من الدولتين. إن القوة الناعمة هي القدرة على الحصول على ما تريد من خلال جاذبيتك وليس بالقهر أو العقاب. وقد لا يكون في القوة الناعمة الحل للمشاكل كلها. على سبيل المثال، ليس من المحتمل أن يكون لولع دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ إل بأفلام هوليود أي تأثير على برنامجه لتصنيع الأسلحة النووية. ولم تفلح القوة الناعمة في إثناء حكومة «طالبان» في أفغانستان عن دعم وإيواء تنظيم «القاعدة» أثناء فترة التسعينيات. بيد أن أهدافا أخرى، مثل الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان، يتسنى تحقيقها على نحو أفضل بالاستعانة بالقوة الناعمة، القادرة أيضاً على خلق بيئة مواتية أو غير مواتية، كما اكتشفت الولايات المتحدة في أعقاب غزو العراق. إن المتشككين الذين يستخفون بالقوة الناعمة لأنها لا تحل المشاكل كلها يشبهون الملاكم الذي يلاكم من دون استخدام يده اليسرى لأن يده اليمنى أقوى. والقوة الناعمة نادراً ما تكون كافية، ولكن كثيراً ما تتضح ضرورة الجمع بين القوة الناعمة والقوة الخشنة لاكتساب إستراتيجية «القوة الذكية». وكما قال وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في العام الماضي، «إن سبب وجودي هنا يتلخص في إقامة الحجة لتعزيز قدرتنا على استخدام القوة الناعمة ودمجها على نحو أفضل بالقوة الخشنة». من الواضح أن القوة العسكرية تشكل مصدراً للقوة الخشنة، إلا أن المصدر نفسه قد يساهم أحياناً في تشكيل سلوك القوة الناعمة. والحقيقة أن العمل غير العادي الذي قامت به المؤسسة العسكرية الأميركية في تقديم مساعدات الإغاثة الإنسانية بعد تسونامي المحيط الهندي في عام 2004 وزلزال جنوب شرق آسيا في عام 2005 ساعد في استرداد أميركا لجاذبيتها.

في المقابل، سنجد أن إساءة استخدام الموارد العسكرية من الممكن أن تضر بالقوة الناعمة. كان الاتحاد السوفييتي يتمتع بقدر عظيم من القوة الناعمة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلا أنه دمر قوته الناعمة حين استخدم الكرملين قوته الخشنة ضد المجر وتشيكوسلوفاكيا. إن ما تمر به روسيا الآن عبارة عن ردة فعل ذات طبيعة قومية في مواجهة ما تنظر إليه باعتباره إذلالاً عانته بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية. وبعد ارتفاع أسعار الطاقة وما أسفر عنه ذلك من دعم للاقتصاد الروسي، رأت روسيا الفرصة سانحة للتأكيد على قوتها التي تتفوق بها على جيرانها. فضلاً عن ذلك فقد أغضبتها الخطط الرامية إلى توسعة حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، واقتراح نشر الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ الباليستية في أوروبا الشرقية، واعتراف الغرب باستقلال كوسوفو عن حليفتها صربيا.

ظلت روسيا لبعض الوقت تسعى إلى إضعاف حكومة جورجيا. وفي أوائل شهر أغسطس نصبت روسيا فخاً في أوسيتيا الجنوبية، فسارت إليه جورجيا بحماقة. ولو استخدم الروس «قوات حفظ السلام» التابعة لهم فقط لحماية حق أوسيتيا الجنوبية في «تقرير المصير» (استشهاداً بالسابقة المتمثلة في العملية العسكرية التي قام بها الغرب في كوسوفو)، لكانوا قد ألحقوا قدراً ضئيلاً من الضرر بقوتهم الناعمة، ولربما كانت الفوائد قد تتجاوز التكاليف. ولكن بقصف وحصار واحتلال أجزاء عديدة من جورجيا، والتسويف في الانسحاب، واستعراض الجنود الجورجيين معصوبي الأعين، والتقاعس عن حماية المواطنين الجورجيين، خسرت روسيا مزاعمها كلها في الشرعية وزرعت الخوف وعدم الثقة في نفوس الناس في أنحاء العالم المختلفة. الآن أصبح جيران روسيا، مثل أوكرانيا، أكثر انزعاجاً. ومن بين التكاليف المباشرة لهذه المغامرة تراجع بولندا عن مقاومتها للنظام الدفاعي الأميركي المضاد للصواريخ الباليستية. وحين التمست روسيا الدعم لسياستها في جورجيا من زميلاتها من الدول الأعضاء في منظمة «شنغهاي» للتعاون رفضت الصين وغيرها منحها ذلك الدعم. وربما تتضمن التكاليف الأبعد أمداً فشل الاقتراح الروسي بتأسيس نظام أمني أوروبي جديد، وعودة أوروبا إلى الاهتمام بخطي أنابيب نابوكو ووايت ستريم للغاز اللذين يدوران حول روسيا ولا يمران عبرها، فضلاً عن انحدار الاستثمارات الأجنبية في روسيا. في المقابل، أنهت الصين شهر أغسطس وقد تعززت قوتها الناعمة بعد نجاحها الباهر في تنظيم دورة الألعاب الأوليمبية. في شهر أكتوبر أعلن الرئيس الصيني هيو جينتاو اعتزام الصين دعم قوتها الناعمة، وكانت الألعاب الأوليمبية جزءاً مهماً من تلك الاستراتيجية. ومع إنشاء معاهد كونفوشيوس للترويج للثقافة الصينية، وزيادة محطات البث الدولية، واجتذاب الطلاب الأجانب للالتحاق بجامعاتها، وتبني دبلوماسية أكثر نعومة في التعامل مع جاراتها في جنوب شرق آسيا، نجحت الصين في استثمار قوتها الناعمة. وتشير استطلاعات الرأي إلى تحسن ملحوظ في سمعتها الدولية. بيد أن الصين لم تنجز بعد أهدافها الأوليمبية كافة. إذ إنها بالامتناع عن الوفاء بوعودها بالسماح بالمظاهرات السلمية والوصول بحرية للمواقع كافة على شبكة الإنترنت، تسببت في تقليص مكاسبها من القوة الناعمة. سوف يتطلب الأمر أكثر من مجرد ألعاب أوليمبية ناجحة للتغلب على هذه القيود التي فرضتها الصين على ذاتها. على سبيل المثال، أظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة «بيو» Pew أنه على الرغم من الجهود التي تبذلها الصين لتعزيز قوتها الناعمة، فإن الولايات المتحدة تظل متقدمة عنها في فئات القوة الناعمة كافة. لذا فعلى الرغم من فوز الصين بأغلب الميداليات الذهبية، فإن ألعاب بكين الأوليمبية لم تكن كافية لقلب المائدة على الولايات المتحدة خارج الساحات الرياضية. وإننا لنتمنى أن يدرك قادة الصين أهمية التعبير الحر في توطيد وترسيخ القوة الناعمة. لا شك أن الوقت فقط هو الكفيل بتحديد النتائج النهائية المترتبة على مدافع أغسطس وذهبه بالنسبة لروسيا والصين. فعلى النقيض من المنافسات الأوليمبية، لن يتم الإعلان عن العلامة النهائية لما قدمته روسيا والصين من أداء إلا بعد فترة طويلة من انتهائهما من ممارسة لعبة القوة.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top