تتسارع وتيرة المصطلحات الأدبية والنقدية التي تغزو حياتنا الثقافية، كنت على يقين بأن عصر البنيوية ولّى، آخذاً معه الحداثة الغربية وكل سماتها الاستعلائية، علماً بأن الحداثة العربية مازالت تشهدا جدلاً من حين إلى آخر بشأن فاعليتها وأثرها في الحياة العربية العامة.

Ad

أصبحنا نقرأ راهناً عن «ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية»، لست أدري إلى أين تقودنا هذه «المابعدية»، وإن بدا واضحاً أن هناك نقاطاً مفصلية تفرق هذه المصطلحات الثلاثة، وتجمعها في آن، ففي حين يرتبط مصطلح ما بعد الكولونيالية بعصر الاستعمار وحال الثقافة التي نتجت بعد انجلاء المستعمر، وهي حال ترتكز على دراسة المنجز الثقافي وتأثير المستعمر الغربي فيه من حيث اللغة وطمس الهوية الأصلية للشعوب المستعمرة، وضخ عقولها بمفاهيم حياتية وعادات وتقاليد جديدة.

يأتي المفكر الفلسطيني/الأميركي إدوارد سعيد على رأس القائمة بالنسبة إلى الأسماء التي تُذكر دائماً في سياق الحديث عن دراسات «ما بعد الكولونيالية»، خصوصاً كتابه المشهور «الاستشراق».

يقر الناقد هانس باراتنس في كتابه «النظرية الأدبية الأساسيات» بصعوبة التفريق بين البنيوية وما بعد البنيوية، وإن كانت دراسات كثيرة تنتهي إلى بعض الفوارق الدقيقة بين هذين المصطلحين، تأتي صعوبة التفريق هذه من اعتبار أن ما بعد البنيوية امتداد طبيعي للبنيوية، كما أن منظّريها في الأغلب هم ذاتهم منظرو البنيوية، ونشأتها في أواسط الستينيات الميلادية لا تسمح لنا بوضع فوارق دقيقة بينها وبين ما بعد البنيوية.

ولعل نظرية التفكيك التي رفع لواءها جاك دريدا، تضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى ما بعد البنيوية وعلاقتها بالفكر الفلسفي، وكذلك اختلافاتها عن النظريات السابقة عليها. ولا تختلف «ما بعد البنيوية» كثيراً عن السياق العام الذي يتناول دراسات «ما بعد الحداثة»، وإن كانت البنيوية تمثل قمة الحداثة بانغلاقها اللغوي واستعلائها المفاهيمي، وكذلك تمجيدها للمركزية الأوروبية، باعتبارها أصل التطور وقمة الرقي الإنساني.

لإن كانت الحداثة والبنيوية تمجدان هذه القيم المذكورة، فإن «ما بعد الحداثة» تفتح الباب واسعاً أمام ثقافة الهامش، والنقد النسوي، وآداب الزنوج، والأقليات الأخرى من الشعوب المستعمرة.

هل نحن أمام حال جديدة من زعزعة المركزية الغربية لمصلحة ثقافة المشرق وصعود قوى أخرى مثل الصين والهند، ونمور آسيا.

تفرض هذه الدول ثقافاتها ونتاجها الصناعي وواقعها الاقتصادي على أرض الواقع، وليس خافياً الجدل الذي يدور راهناً بشأن الدراسات الثقافية وما ينتج عنها من زعزعة للمركز وإبراز للهامش، بناء على اعتبارات السوق ورواج الثقافة الشعبية الجماهيرية على حساب الثقافة الرسمية أو الأكاديمية الرصينة.

يشهد معرض الكتاب في القاهرة هذه الأيام جدلاً بشأن ثقافة الهامش وأثرها في الحياة العامة، كما أن أغنيات شعبان عبدالرحيم، وموجة «بحبك يا حمار» لها دلالاتها الأخرى بالنسبة إلى الحراك الاجتماعي الخفي الذي تسير عليه الجماهير مقارنة بالثقافة الرسمية والمؤسساتية.

من أطرف ما قرأت في هذا المجال أن أساتذة «النقد الرصين» في الجامعات الأميركية بدأوا ينصرفون عن دراسة كبار الأدباء والشعراء إلى دراسة مادونا وكذلك الدراما التلفزيونية، ونجد نقاداً أوربيين بارزين يكتبون عن السجائر وأثر السمنة، وربما «موسيقى الهبهوب»، بحسب الناقد جونوثان كولر.

كل ذلك بفعل الدراسات الثقافية التي فتحت الباب واسعاً لتناول مظاهر الحياة المختلفة، ولا ننسى الجانب الاقتصادي على اعتبار أن وكالة إعلان تروج لمادونا، أو أحد مغنّي موسيقى الراب قد تدفع أضعاف ما يتلقاه أستاذ الجامعة في صرحه الأكاديمي الرصين من الناحية العلمية، والهش من حيث الميزانية والدخل المادي.