سمعت من العم «بو سليمان» في مناسبات عدة جملة مقتضبة كان يكررها مراراً سوف تبقى محل اعتزاز في ذاكرتي ما حييت، حيث قال، رحمه الله، إنه لن يتزحزح عن مبادئه ولن ينثني للضغوط ولن يترك مسؤولياته «حتى يموت»، وكان بالفعل مصداقاً لذلك العهد والحزم.

Ad

ترجل أحد فرسان الكويت المخلصين لينام قرير العين بعد حياة حافلة بالنشاط والعطاء ومفعمة بروح المسؤولية وخاتمة بمعاني الأمانة، وفقدت الكويت بالعم براك المرزوق رئيس ديوان المحاسبة أحد رموز حماة الأموال العامة الذي أضفى على هذا الجهاز الرقابي مزيداً من الهيبة والمهنية العالية التي طالما كانت مبعثاً على الثقة والارتياح ورسالة بليغة بأن الكويت لاتزال بخير بفضل رجالاتها الأوفياء والصادقين.

وقد ساهم «بو سليمان» وفريق العمل من الشباب الكويتي تحت إدارته الطويلة في الارتقاء بمستوى العمل الرقابي وحوَّل جهاز ديوان المحاسبة إلى نموذج يحتذى به على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي وعلى صعيد العالم العربي، ونجح إلى حد كبير في تسهيل عمل مجلس الأمة والحكومة في ممارسة دورهما الرقابي من خلال التقارير عالية الجودة في مهنيتها المحاسبية والجديرة بكسب ثقة أهل الكويت.

ولعل من سخريات القدر أن تكون حالة الفلتان المالي وتفشي صور الفساد والجرأة على المال العام وسوء الإدارة المالية المؤتمنة على حلال أهل الكويت بواسطة البعض من كبار المسؤولين والمتنفذين في الدولة مادة خصبة وتجربة غنية وتحديا كبيراً لديوان المحاسبة الذي كان أهلاً لذلك في رصده للمخالفات والتجاوزات وتسميتها بأسماء مرتكبيها دونما خوف أو تردد رغم الضغوط والتهديدات، وكان صمود هذا الرجل في مقابل ذلك كالجبل الشامخ والصعب الممتنع ومثالاً للإخلاص والثبات في الموقف والمبدأ.

وعلى الرغم من العلاقة الشخصية والمباشرة المحدودة مع العم «بو سليمان»، فإنني سمعت منه في مناسبات عدة جملة مقتضبة كان يكررها مراراً سوف تبقى محل اعتزاز في ذاكرتي ما حييت، حيث قال، رحمه الله، إنه لن يتزحزح عن مبادئه ولن ينثني للضغوط ولن يترك مسؤولياته «حتى يموت»، وكان بالفعل مصداقاً لذلك العهد والحزم.

وعلى من يريد فهم مكانة ديوان المحاسبة وموقعه الحيوي والخطير كصمام أمان لأموال الدولة وخزائن أجياله القادمة وأهمية استمرار بقاء هذا الجهاز تحت إمرة وإدارة شخصيات وطنية على شاكلة براك المرزوق، فعليه مراجعة التقرير المدوي لديوان المحاسبة للفترة من عام 1986 وحتى عام 1992 أي إبان حل مجلس الأمة وتعطيل العمل بالدستور ليرى حجم العبث والنهب المنظم للأموال العامة التي تجاوزت سبعة مليارات دينار عندما انفردت الحكومة بالعمل دونما حسيب أو رقيب، فتبدلت مراكز القوة والنفوذ وتغيرت معها موازين القوة السياسية وقفزت إلى السطح رموز جديدة على رقاب الكويتيين وعلى حساب مواردهم وثرواتهم الوطنية في غفلة من الزمن وفي ليال ظلماء!

ولا يعني هذا بالطبع أنه في ظل وجود الديوان وممارسة دوره الرقابي أننا قد تحولنا إلى مجتمع ملائكي وقضينا على مرتع الفساد المالي وثقافة الهدر لحرمة الأموال العامة، فتقارير الديوان مازالت حافلة بالمخالفات والتعديات وتحتاج إلى مناصرتها من قبل المؤسسات الدستورية ووسائل الإعلام والرأي العام من خلال الوعي المجتمعي وسد الثغرات التشريعية والوقوف إلى جانب الحق في صراعه الأزلي ضد الباطل وفي جبهة الإصلاح ضد جبهة الفساد حتى قيام الساعة أو على الأقل حتى قيام ساعة كل منا.

وهنيئاً للفقيد براك المرزوق أن يكون مسك الختام في حياته تقرير ديوان المحاسبة في قضية المصفاة الرابعة المثيرة للجدل والاستفهام، فكان هذا التقرير القاضي بعدم قانونية الإجراءات التي اتبعتها الحكومة ومؤسسة البترول في محاولة تمرير هذا المشروع الأكبر في تاريخ الكويت من حيث الحجم والكلفة المالية بمنزلة وصيته للأمة، وحمداً لله أن رهاننا كان عليه كبيراً عندما أعلنا أن تقرير الديوان سوف يكون الفيصل في حسم هذا الجدل، وحري بنا أن ننفذ هذه الوصية لتكون صدقة جارية أخرى في ميزان أعمال المرحوم براك المرزوق وكلمته الأخيرة في وداع الكويت.