-1 ضرب «حزب الله» المثال الثاني الحديث والطازج، لكيفية الحكم الديني الأصولي على الأرض. وكان المثال الأول الحديث والطازج هو حكم الدولة الدينية «الحمساوية» في غزة. وقد رأينا وسمعنا وقرأنا، كيف حكمت دولة «حماس» في غزة. ماذا فعلت أولاً بالمعارضين لها من الطرف الفلسطيني الآخر «فتح»؟ وماذا فعلت بالقضية الفلسطينية التي أصبح اسمها- مجرد اسمها- مكروهاً في أوساط الرأي العام العالمي؟ ثم ماذا فعلت بالشعب الفلسطيني في غزة، من جوع، وتشريد، واستجداء على المعابر، وإغلاق المدارس، وملء المستشفيات، وحرق الأرض؟ لا تقولوا لي إن العرب وإسرائيل وأميركا وأوروبا وقفوا ضدها. هذا صحيح. ولكن لنسأل أنفسنا سؤالاً صريحاً، ولنجب عليه إجابة صريحة.

Ad

لماذا وقف الجميع ضد سلطة «حماس» في غزة، ما عدا سوريا، وإيران، و»حزب الله» و»الإخوان المسلمون»؟

والجواب بكل بساطة هو أن «حماس» بحلفها غير المعلن مع سوريا وإيران، تريد إشعال ما تبقى من فلسطين بعد 1967، وحرقه إن استطاعت، ونشر الفوضى في الجزء المتبقي من فلسطين وخارج فلسطين كذلك. وهذا ما لا يرضي أحداً في العالم. وكم من مرة قلنا إننا لا نعيش وحدنا على هذا الكوكب، وإننا شركاء العالم في السرّاء والضرّاء. ولكن «حماس» تعترف بالعالم الآخر، وتطلب منه العون والمساعدة والنجدة في الضرّاء، وتضرب بنصائحه وتوصياته ومواقفه عرض الحائط في السرّاء. وهكذا دواليك. والحال أن «حماس» نموذج مصغر جداً للدولة الدينية الانتهازية، التي يريد الأصوليون والسلفيون الجهاديون إقامتها في القرن الحادي والعشرين، ولم يتعلموا، ولم يعقلوا مما انتهت إليه الدولة الدينية في إيران، وهي النموذج الأكبر الذي يسعى الأصوليون للاقتداء به.

-2 إن نظرة سريعة على ما يدور في داخل إيران الآن، سيضيء لنا الحقيقة الساطعة عن الدولة الدينية في القرن الحادي والعشرين، التي يسعى «حزب الله» إلى إقامتها كما قال نعيم قاسم، الأمين العام المساعد لحزب الله، في كتابه (حزب الله : المنهاج والتجربة والمستقبل، 2002).

يقول الباحث العراقي جاسم الحلوائي في سلسلة مقالات تحت عنوان «سنوات بين دمشق وطهران»، أن العواقب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية لسيطرة رجال الدين على السلطة في إيران كثيرة، ومنها بعض المعطيات ذات الدلالة المهمة، وهي مستقاة من دراسة للدكتور أمان الله قرابي، الخبير الاجتماعي الإيراني والأستاذ الجامعي، تتناول معالجة ظاهرة البغاء التي تشمل 300 ألف من بنات الشوارع في طهران وحدها، وتتراوح أعمارهن بين 11 إلى 18 عاماً. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الباحث، بأن هذه الظاهرة تشير إلى ضعف القيم الدينية في المجتمع (في استطلاع أجرته صحف رسمية إيرانية، تبين أن 85% ممن ولدوا بعد الثورة لا يمارسون الشعائر الدينية)، إلا أنه يؤكد أن أسباب الظاهرة اقتصادية بالأساس. فهناك أربعة ملايين عاطل عن العمل. والبلد بحاجة إلى مليون فرصة عمل جديدة سنوياً، في حين أن ما يتحقق هو من 400 إلى 500 ألف فرصة. وتبلغ البطالة من 20% إلى 27% في أوساط الخريجين. وهناك تسعة ملايين عازب وعزباء، بينهم 5.5 ملايين من العازبات. ويوجد خمسة ملايين مدمن مخدرات، ويعيش مليونان من سكان طهران في ضواحيها حياة بائسة (صحيفة «ميهن»، عدد 96، 2006). والعدالة التي ينادي بها رجال الدين ليلاً نهاراً كانت نتيجتها، وهم في قيادة السلطة لأكثر من ربع قرن، زيادة الأغنياء غنى وزيادة الفقراء فقراً في إيران، حيث «يعيش أكثر من نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر، وتفتك البطالة بأكثر من عشرين في المئة من الشعب الإيراني.

إن الاتجاه الحامل للمشروع الحداثي مقصر في صراعه الفكري مع الأصولية، لأنها هي التي تمثل بمشروعها الديني العتيق والظلامي خطراً فعلياً على الإسلام. وهذا ما برهنت عليه التجارب الأصولية الثلاث الإيرانية، والسودانية، والأفغانية. فإيران الأصولية شجعت الإيرانيين على ترك المساجد خاوية حيث 75% من الشعب و86% من الطلبة تركوا الصلاة. وقد تكون الجمهورية الإسلامية، أول دولة مسلمة تبيع المساجد المهجورة، فهل بعد هذا الإفلاس إفلاس؟

إن انتصار الأصولية في إيران، كان تدشيناً للعودة بالعالم الإسلامي إلى القرون الوسطى.

وهذه هي الدولة التي يعلن منها أحمدي نجاد، بأنها أقوى دولة في العالم الآن، ولا توجد دولة في العالم تستطيع غزوها أو قهرها. وأن «المهدي المنتظر» هو الذي يوجهها، كما قال، وكشف عن مرض «الهلوسة السمعية والبصرية Audio And Visual Hallucination» الذي أصيب به نجاد منذ سنوات، ودفعه إلى القول إنه يجتمع بـ «المهدي المنتظر» أسبوعياً.

3- لم يستطع «حزب الله» أن يفعل في لبنان الشيء الكثير، مما ينوي فعله- وهو إعلان لبنان جمهورية إسلامية يكون نصر الله مرشدها الأعلى، ولن يهدأ لبنان من دون ذلك- في ما لو حكم لبنان وأعلن منها قيام الجمهورية الإسلامية اللبنانية، والتي هي قائمة الآن بشكل مصغر- على مساحة أقل قليلاً من نصف لبنان- في المناطق التي يسيطر فيها «حزب الله»، بكل ما للدولة من مقومات. ومَن يزر هذه المناطق- هذا إذا استطاع- سوف يدرك أن دولة «حزب الله» قائمة داخل الدولة اللبنانية، وما على «حزب الله» إلا أن يُكبّرها قليلاً و(يمطّها) بعض الشيء لتشمل شبكتها كل لبنان، وهذا سهل جداً كسهولة اجتياح بيروت والجبل في الأسبوع الماضي، وهو- كما يظن بعضهم- بالطبع من سابع المستحيلات في ظل التركيبة السكانية اللبنانية الموجود الآن.

ولكن الله على كل شيء قدير، مادام أن «حزب الله» حزب إلهي، وسلاحه مقدس.

4- فماذا فعل «حزب الله» في لبنان في الأسبوع الماضي، عندما وقعت بيروت والجبل في قبضته العسكرية؟

إن ما فعله «حزب الله» هو بالضبط ما فعلته الثورة الخمينية في إيران عام 1979.

1- قتل وجرح كل مَن واجهه من الإخوة الأعداء، من دون تمييز أو محاكمة. وهذا ما فعلته الثورة الخمينية في أعدائها من أبناء إيران.

2- قام بتدمير وحرق وسائل الإعلام المتعارضة مع مبادئه، فأحرق ودمر «تلفزيون المستقبل» و«جريدة المستقبل»، وهدد بقية الوسائل الأخرى المعارضة له. وهذا ما فعلته الثورة الخمينية في أعدائها من أبناء إيران.

3- حاصر الزعماء السياسيين المعارضين له في بيوتهم. وهذا ما فعلته الثورة الخمينية في أعدائها من أبناء إيران.

4- قام بالاعتداء على الجمهور والبيوت الآمنة في الجبل، وخصوصاً بيوت الدروز. وانتهك الحرمات الأسرية. وهذا ما فعلته الثورة الخمينية في أعدائها من أبناء إيران.

5- استعرض قوته العسكرية في مناطق شعبية لا علاقة لها بالصراع القائم بين «حزب الله» والموالاة. ولكنه أراد أن يظهر قدرته العسكرية لكي تكون نذيراً لكل الفرقاء في الحرب والسلم مستقبلاً. وهذا ما فعلته الثورة الخمينية في أعدائها من أبناء إيران عن طريق الحرس الثوري الإيراني «الباسدران». ويعترف الكاتب معمر عطوي بأن الحرس الثوري ساهم إلى حد كبير في دعم منظمات عسكرية في لبنان وفلسطين وأفغانستان والعراق. وأنشأ «فيلق القدس» لهذه الغاية تحت عنوان «تصدير الثورة»، (جريدة «الأخبار» التابعة لـ«حزب الله» ،6/5/2008).

ولو امتد حكم «حزب الله» للبنان لأكثر من أسبوع، لرأينا الكثير مما سيفعله الحزب في لبنان، من تعطيل لوسائل الإعلام «الرأي الآخر» كافة، وفرض «الشادور» على حسناوات شارع الحمراء، واعتلاء حسن نصر الله سدة الرئاسة، كمرشد عام للثورة اللبنانية، واضطهاد السُنَّة، وبقية مكونات المجتمع اللبناني. وكاد كل هذا أن يحصل، لولا أن لبنان دولة شبه علمانية، وفيها ما يطلق عليه بـ«ديمقراطية التوافق»- علماً بأن الديمقراطية في أبسط معانيها هي اختلاف الرأي- وأن فرنسا مازالت تعتبر لبنان ابنها الشرعي في الشرق.

* كاتب أردني