البباوي وصبيانه
أن يصبح الفقير العصامي غنياً ثرياً ، فذلك ما اعتاد المجتمع الإسلامي أن ينظر إليه باحترام وتقدير، أما أن يستغل الثري الغني ثراءه في إذلال الآخرين أو للتوصل إلى ما لا يليق به وقدراته من الوظائف والمناصب، فهذا ما يرفضه المجتمع ويدينه بشدة ، ولعل في موقف المجتمع المصري من المعلم محمد البباوي الذى صار الوزير شمس الدين محمد البباوي ما يؤيد صدق ذلك .والبباوى هذاهوأحد أشهر شخصيات العصر المملوكي المتاخر(الجركسي) ، وأكثرها استثارة لشهية الشعراء من معاصريه حتى أن المؤرخ ابن تغرى بردي جمع في أحد مؤلفاته كما غزيرا من الهجاء الذي نظمه الشعراء في حقه، وإن كان لم يأخذ حقه في الكتابات التاريخية الحديثة سواء تلك المعنية بالتاريخ السياسي للملوك والأمراء والصراعات الكبرى أو حتى الدراسات التي تولي التاريخ الاجتماعي والاقتصادي مساحة أكبر من الاهتمام والتحليل.
فالبباوي رغم توليه الوزارة لم يؤثر في مجرى الأحداث السياسية ولذا لم يكن من المعدودين بين الشخصيات السياسية البارزة في عصره، وهو بوصفه من الباعة الذين تولوا مناصب في الحكومة المملوكية كان استثناءاً في طبيعة تركيب وتكوين نخبة الحكم، وخلافاً لأبي الخير النحاس، فأن البباوي لم يعمر طويلا في مناصبه ، فمر على إعادة كتابة التاريخ المملوكي كأن لم يكن . عمل محمد البباوي خفيراً في بلده وقيل راعيا للغنم، وعندما قدم القاهرة التحق بخدمة بعض الطباخين وعمل مرقداراً أي مسؤولا عن المرق، ومن مرق اللحم انتقل البباوي ليعمل صبياً عند بعض معاملي اللحم الذين يوردون اللحوم للدولة ويجنون أرباحاً طائلة من عملهم مع السلطنة المملوكية لأن غالبية أمراء المماليك كانوا يتلقون رواتب ثابتة من اللحم لهم ولاتباعهم. ولا زال محمد البباوي يتنقل في هذه الصناعات إلى أن « صار معاملاً، وحسن حاله ، فركب حماراً « !! و « ترقت به الأحوال ونمى في كاره إلى أن أثري وحصل مالا كثيراً وصار معول الوزراء عليه في حمل اللحم المرتب للمماليك السلطانية ، وبقي يركب بغلا بنصف رحل (بردعة) بسلخ جلد خروف ويلبس قميصا أزرق كأكابر المعاملين» . وكان هذا الاقتراب الحميم من قمة السلطة بالقلعة سببا في اشتهار أمر البباوي لدى الملك الظاهر خشقدم بوصفه أحد أكثر موردي الأغذية ثراء في القاهرة ، وكان خشقدم « من الخسة والطمع في محل كبير « ، « ويميل إلى جمع المال ويشره في ذلك من أي وجه كان جمعه « فراق له أن يأخذ ثروة البباوي دون أن يلجأ إلى مصادرته حتى لا يوقع ذلك الاجراء الرعب في قلوب معاملي الدولة. وكانت خطة خشقدم لاصطياد المعلم محمد البباوي غاية في البساطة، وتدور حول محور واحد هو تعيين البباوي في إحدى الوظائف الحكومية وتكليفه ما لا يطيق من النفقات ثم الاستيلاء على أمواله في النهاية إما لعجزه أو بحجة أن موظف الدولة وماله للسلطان . في يوم السبت 13 ذي الحجة من سنة 867 هـ استقر معامل اللحم المعلم محمد البباوي ناظر الدولة دفعة واحدة «وترك زي السوقة من لبس القميص الأزرق وركوب البغل ببردعة من فرو خروف . ولبس زي المباشرين الكتاب بدءاً من العمامة والفرجية وانتهاء بالخف والمهماز». وكان لتعيين البباوي صداه لدى الناس قاطبة ، الذين شق عليهم ذلك وعدوه من قبائح الملك الظاهر خشقدم. فالمماليك ومن انحاز اليهم من الكتاب والمباشرين لا يرون للبباوي أحقية في تلك الوظيفة « لانحطاط قدرة وجهله ووضاعته وسفالة أصله» بينما يعتب عامة الناس والعلماء على خشقدم لتعيينه في نظر الدولة رجلاً امياً لا ينطق بحرف من حروف الهجاء إلا أن كان تلقينا وفوق ذلك كان محمد البباوي في نظر الكافة غير لائق في زي الكتاب . وبالجملة « كانت ولايته لهذه الوظيفة من أقبح ما وقع في الدولة التركية بالديار المصرية» ولا يوجد ما هو أسوأ من ذلك سوى ولاية البباوي نفسه للوزارة . ففي 17 ربيع الأول سنة 868 هـ أرتكب خشقدم خطيئته الثانية وأمر بأن يعين معامل اللحم سابقا وناظر الدولة حاليا وزيرا بالديار المصرية ولبس الرجل خلعة الوزارة ، فالله دره الشاعر أبى العلاء المعري حينما قال : فيما موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ ورغم قصر المدة التي تولي فيها البباوي الوزارة إلا أنه باشرها « بظلم وعسف وعدم حشمة وقلة أدب مع الأكابر والأعيان وساءت سيرته، وكثر الدعاء عليه ، إلى أن أخذه الله تعالي أخذ عزيز مقتدر وأراح المسلمين منه».