بعيداً عن هذا العالم
أشياء كثيرة تتغير في هذا العالم كل يوم، في كل لحظة، قد تنعكس علينا أو لا تنعكس، لكنها تحدث هناك وليس هنا. ليتنا فقط، كنا من هذا العالم! المناخ المحلي وحده، عقد ارتباطا وثيقا بمثيله العالمي، احتباسا حراريا وتقلبات مناخية عجيبة. تأخر الشتاء أكثر كثيرا من المعتاد، الجفاف لم ينل فقط من أراضينا و قمحنا ومحاصيلنا، دواخلنا أيضا عطشى لقطرة مطر، الصيف يأبى أن يرحل وأكتوبر في أيامه الأخيرة، وكأن كل ما يزور هذه الأرض الطيبة، يدمن البقاء؛ يتعلم تكرار نفسه وزمنه إلى ما لا نهاية.
كيف سيكون شكل العالم بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها؟ وكيف سيبدو مع أوباما التغيير والسياسات الجديدة في حال انتخب؟ وكيف ستترجم نفسها الأحداث والكوارث والتداعيات والنتائج والفوضى واللافوضى؟ وما التأثير الذي سيتركه هنا، ما يحدث هناك؟ وكم منجّما وقارئة كف نحتاج لتوقع المستقبل القريب الغامض، المرتقب، في العالم البعيد؟!ليتنا كنا من هذا العالم! مثل كائنات فضائية غريبة، طيبة وغارقة في الحيرة، ننظر شذرا إلى الأرض وأهلها. نستغرب سير زمانهم، ونضطر إلى ابتداع معادلات رياضية لنفهم كيف يمضي الوقت لديهم. كم يحمل تغييرا في الساعة، أو الدقيقة، كيف يحتملون عبث الساعات وجموحها. في كوكبنا نحن، الزمن يمضي بمعزل عنا، حيث الأحلام تستيقظ على الأحلام، لا أحد يرغب بالاستيقاظ على الواقع، ولا حتى المرور به عبر حلم. بعد أيام قليلة يصدر باسمنا، نحن الشعب، حكم المحكمة بحق المعتقلين الاثني عشر، بتهمة تحريض الزمن الراكد. وأذكر، والذاكرة أكثر حياة من لحظاتنا المعاشة، أنه باسمنا، نحن الشعب، قد صدر حكم مشابه، في وقت مشابه والتهمة نفسها، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وبعده، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبعدها، قبل غزو العراق وبعده، قبل الأزمة المالية العالمية، وبعدها أيضا! قول ذلك، لا يحتاج إلى قراءة في الفنجان. وبعد أيام قليلة، نتذكر مضي ثلاثة أشهر على «أحداث» سجن صيدنايا العسكري. نتعاطف بصمت مع مئات العائلات، التي لا تزال تجهل مصير أبنائها هناك حتى اللحظة. إذا كانت هناك منذ سنوات طويلة «مطالبات» و«مناشدات» من أجل إلغاء مادة قانونية تمنح الحصانة لعناصر أمنية محددة، من العقاب على ما ترتكبه من تعذيب وإساءة أثناء أدائها لوظيفتها، وإذا كانت النتيجة التي تم التوصل إليها، صدور قانون جديد قبل أيام، يمنح حصانة مشابهة إلى من تبقى من العناصر الأمنية، فذلك من مقتضى رتابة الزمن واستنساخه نفسه بلا كلل. بعد أيام قليلة، سنكون «مازلنا» نتحدث في جلسة دردشة مع الأصدقاء، أو في إطلالة تلفزيونية «ملتزمة»، أو عبر مقال أو بيان، عن السجون والسجناء، والتعذيب والاختفاء والانتهاك والفساد والفقر واللاعدالة. نعدد قوانيننا التي تستبيحنا، ونعتب على قدرنا الذي لا يقبل تبديلا. نتساءل من جديد، ولا جديد في ذلك، لماذا لا ينالنا شيء من حياة «العالم»؟ ولماذا عجزنا أو تخلينا عن الإمساك بزمننا؟ إما أن من يعيشون على هذه الأرض الطيبة، غير مرئيين، أو أنهم يفضلون ذهب الصمت، أو أن أصواتهم إن تكلموا معزولة بكاتم صوت، أو أنهم فقط، يعيشون في مكان آخر، غير هذا العالم. لحظات انتظار صدور الحكم على معتقلي إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وفي قضايا أخرى، على صحافيين ومدونين وأصحاب رأي في غير مكان من كوكبنا المعزول عن العالم، قد تكون أكثر أهمية من لحظة صدور الحكم ومضمونه. ولو أنها في حد ذاتها تكرار لا ينتهي للحظات مشابهة هنا وهناك، لكنها وبعكس المنتظر منها، تقارع الزمن الميت. تذكر بأن هناك من لا يزال يمسك بالأمل، وأن أصواتا ما، انطلقت وسمعت رغم الجدران كلها، وأن هناك أصواتا أخرى، قد تكون لم تحظ بتغطية إعلامية واهتمام حقوقي، وهي تنادي في وديان أخرى لا تزال خارج نطاق سمعنا، وتحتاج إلى من يلتقط صداها، وتريد فقط أن تقول، أن نكون جزءا من هذا العالم، نؤثر ونتأثر، نسمع للآخرين صوتنا، وليس أصوات قنابلنا وأحزمتنا الناسفة! يعني أولا أن نكون موجودين حقا هنا بالذات، على كوكبنا المعزول، وأن نمتلك صوتا، نخرق به جدران العزل، وما أكثرها. * كاتبة سورية