المدن القديمة ليست فقط الواجهة السياحية للدول التي تحتضنها، فهي قبل ذلك ذاكرة وتاريخ وتراث، وفي مثل عواصمنا، هي مساحات للجمال وسط تلوث بصري يطغى عليه سوء وفساد التخطيط والتنظيم وجشع الاستثمار المنفلت من التقيد بأي قوانين بيئية أو معايير جمالية.
الكثير من تلك المدن باتت مهددة في وجودها وتراثها ونسيجها العمراني والإنساني، تُركت زمنا طويلا للإهمال أو للتخريب المتعمد أو للقرارات المتخبطة والعشوائية، أو لذلك كله. وهي تخوض معركة بقائها وحيدة، إلا من تضامن وجهد عدد قليل من الأفراد ومنظمات المجتمع المدني، التي تحفز المنظمات الدولية المعنية، كمركز التراث العالمي، لإطلاق أجراس الإنذار بين حين وآخر. تلك المنظمات لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك ما لم ترغب الحكومات المعنية باستدعاء المساعدة للحفاظ على تلك المدن. وتلك الحكومات، غالبا ما لا تهتم باستدعاء تلك المساعدة، لولا الجهود المحلية التي تضغط في هذا الاتجاه وتسعى للحد من الخراب الذي يلحق بتلك المدن. مثل تلك الجهود كانت كفيلة بإيقاف مشروع شارع الملك فيصل الذي كان يهدد دمشق القديمة بعزلها عن محيطها الحيوي العمراني والإنساني، بعد أن عانت تلك المدينة طويلا الإهمال والقرارات المتخبطة والمتضاربة، والتي أدت إلى هدم أجزاء من محيطها وتداعي كثير من أبنيتها خلال السنوات الماضية. رغم أن الأخطار لاتزال تهدد المدينة في أكثر من مكان وموقع، فإن إيقاف المشروع المذكور يعتبر انتصارا لها ولمن دافع عنها بنفس طويل ومثابر، بدءا بالمعماريين والاختصاصيين مرورا بأهل المنطقة الذين تصدوا بشجاعة للمشروع، وانتهاء بالصحافيين الذين كرسوا وقتا وجهدا كبيرين لتلك القضية وأمثالها. قصة الدفاع عن المدينة القديمة كانت لتكون عادية لو أن أحداثها جرت، حيث للرأي العام وزن وللصحافة تأثير وللمجتمع المدني دور فعال. لكن لأن الواقع هو نقيض ذلك تماما، فإن ما تحقق يستحق الاحتفاء به، ويظهر أن الجهود التي بذلت من قبل جميع الأطراف التي تضافرت للدفاع عن دمشق، لم تكن جهودا عادية، وأنه لاتزال هناك إمكانية للتغيير حين تتوافر الاستمرارية والإرادة، علما أن معركة شارع الملك فيصل، لم تنته من دون خسائر، إن جاز لنا التعبير. فمن هنا يجب أن نقرأ الدعوى القضائية ضد أحد الصحافيين المتخصصين بقضايا التراث والآثار، والذي كانت له في قضية شارع الملك فيصل وقبلها في قضية هدم السوق العتيق وميتم سيد قريش وقبلها في عمريت... إلخ. صولات وجولات. الصحافي الزميل وعد مهنا يواجه دعوى قضائية مرفوعة ضده من قبل السيد وزير الثقافة، تتهمه بالذم والتحقير والنيل من هيبة الدولة! وذلك على خلفية مقالات وتصريحات صحافية أدلى بها أثناء قضية السوق العتيق وميتم سيد قريش، التي انتهت بإزالته من الوجود رغم قرارات حمايته السابقة من الجهات المختصة. في المرحلة الأولى من الدعوى، حكم على وعد بالسجن شهرين وستمئة ألف ليرة سورية ما بين غرامة وتعويض عن «الضرر المعنوي» الذي لحق بالوزارة، عندما ووجهت بحقيقة خطأ قرارها بهدم السوق العتيق، رغم تأكيدات لا تحصى من قبل مختصين وتراثيين ومعماريين، على خطأ ذلك القرار، الذي صدر ونفذ في اليوم نفسه!هذه الدعوى ليست شخصية. هي لا تخص فقط الصحافي الذي تخاصمه الوزارة، بل إن جميع من يدافع عن تراث دمشق في وجه القبح والجشع ومحو الذاكرة، معني بهذه القضية. هي قضية رأي عام، الدفاع عن ذاكرتنا وما ننتمي إليه وينتمي إلينا، أو ما تبقى منه، والدفاع عمن يدافع عن ذلك بإيمان وإصرار. فقضية شارع الملك فيصل قد تكون أقفلت، لكن ذلك لا يعني أبدا أن المدينة القديمة باتت بمنأى عن الخطر. من دمشق القديمة، إلى صنعاء التاريخية المهددة بالانهيار إلى بنت جبيل القديمة المهددة بالهدم إلى مدينة زبيد المهددة بالشطب من قائمة مدن التراث العالمي... إلخ، هي قضية رأي عام، لا يجب أن تقتصر على الاختصاصيين وبعض المهتمين. كي تصمد، يجب أن تجد من يهتم لبقائها أكثر من أولئك، ومن السياح الذين بكل تأكيد، لن يكونوا مهتمين بالتقاط الصور أمام فندق الفصول الأربعة أو «المول سنتر»!* كاتبة سورية
مقالات
قضية رأي عام
20-03-2009