كل أزماتنا السياسية، أو لنقل أغلبها فالظلم ظلمات، هي صناعة حكومية بامتياز. القاعدة المنضبطة الوحيدة التي تسير عليها الإدارة الحكومية هي «يا سراجين يا ظلما»، فهي إما أن تصمت صمت القبور عن المشاكل التي تضرب الدولة فتتجاهل وجودها، ببلادة مصطنعة منقطعة النظير، مهما استفحلت وتعقدت وصاح الناس من جرائها، وإما أن تفيق فجأة من سباتها فتقرر دخول المعركة «ونطح» كل ما، ومَن، يعترض طريقها، وفي الحالتين وعلى طبق من ذهب مرصع بالألماس تقدم مادة سياسية جاهزة للأكل ليقتات عليها حتى خيالات المآتة فيصبحوا أبطالاً!

Ad

إزالة الدواوين المخالفة، والتصدي للانتخابات الفرعية، وغيرها من القضايا المشابهة، واليوم قضية خالد الطاحوس وإزالة المساجد غير المرخصة، كلها أمثلة على قاعدة «يا سراجين يا ظلما» التي تمارسها الحكومة بشكل غريب عجيب ما أنزل الله به من سلطان!

من حق الحكومة أن تزيل التعديات على أملاك الدولة العامة لا شك، بما فيها المساجد غير المرخصة، ففي دول المؤسسات حيث تستقر الدساتير ويسود القانون لحماية مصالح الناس ورعاية شؤونهم بما يكفل استمرار وجودهم، ليس لأحد حتى أن يمارس حرياته، بما فيها الدينية، ويشرع في القيام بطقوسها وشعائرها، هكذا دون ضابط ولا رابط.

لكنني، وإن قلت ما قلت بقناعة راسخة، لا أستطيع أن أفهم كيف تقوم الإدارة الحكومية بالسكوت عن هذه المساجد غير المرخصة، بل تزويدها بالماء والكهرباء، حتى استقرت فصارت علامات أساسية في مناطقها، لتأتي اليوم، في ظل واقع محتقن سياسياً، وأزمات متوالدة انتهت بحل مجلس الأمة، ونحن على مشارف انتخابات برلمانية جديدة وندوات وتصريحات للمرشحين الباحث أغلبهم عن البطولات والظهور الإعلامي استعطافاً لأصوات العامة، أقول لتأتي اليوم فتقرر «مناطحة» هذه الظروف بكل «دفاشة»... لا أستطيع أن أفهم هذا المشهد إلا على أنه تصنيع لأزمة مع سبق الإصرار والترصد!

موضوع بهذه الحساسية العالية المركبة، قابل لأن يعلّق عليه أكثر بكثير مما يستوعب من عوالق سياسية ودينية وفئوية وطائفية، وصالح «للتثوير» الشعبي بكل سهولة، تأتي الإدارة الحكومية فتشعل فتيله هكذا بلا تبصر أو حكمة!

أحيانا يخيل لي، وأظن أني غير مجاف للحقيقة، بأن هناك من داخل الحكومة ومن خارجها، من يقومون بتوريطها في مثل هذه المواقف ودفعها للسير في هذه الرمال المتحركة، ليجلسوا بعدها على المدرجات يأكلون «النفيش» ويتفرجون على مشهد غرق الحكومة شعبياً!

أما كان ممكناً، مثلاً، ودرءاً لخلق هذه الأزمة، تشكيل لجنة من علماء الشريعة لدراسة حالات المساجد غير المرخصة حالة حالة، استنادا إلى قواعد شفافة ومعلنة كوجود مسجد آخر في الجوار على بعد محدد، واعتبارات أنظمة المرور، ولوائح مظهر الدولة العام من حيث ملاءمة شكل هذه المساجد، وغيرها، والقيام بتوفير الحلول البديلة، بشكل حكيم هادئ؟!

بالطبع كان ممكناً، لكن هذا كان سيحصل لو كان في القوم رجال راشدون أصحاب قرار يريدون تحقيق النتائج لا صناعة الأزمات، في حين أن الواقع أننا في بلد اختطفت فيه الإدارة الحكومية من داخلها ومن خارجها، وصارت تماما كساعة تدور تروسها كل وفق هواه بلا علاقة أو ارتباط بينها لنجدنا وقد صار الزمن يسير بنا إلى الوراء!