شاهدنا هذا الأسبوع في القاهرة أحدث أفلام المخرج محمد كامل القليوبي بعنوان «نجيب الريحاني... ستين ألف سلامة»، وهو فيلم تسجيلي طويل (حوالي ساعتين إلا ربعاً)، عبارة عن «ستين ألف سلامة» للريحاني نفسه... في «النعي» الذي كتبه بنفسه لنفسه ونُشر فور وفاته عام 1949.

Ad

تظهر في الفيلم ابنة الريحاني جينا التي تعتبر وأمها الألمانية من الصفحات المجهولة في سيرة حياة الفنان الكبير، وكم من صفحات مجهولة في تاريخ شخصيات مهمة كثيرة وليس الريحاني فحسب.

عرف المجتمع المصري جينا أخيراً، إذ ظهرت بعد إصرار شديد من القيّمين على مهرجان القاهرة لتتسلم جائزة تكريم بإسم الريحاني... يروي د. القليوبي: «استلمت الجائزة وقبل أن تنتهي الحفلة كانت اختفت! وبصعوبة بالغة بعد ذلك أقنعتها بالظهور في الفيلم».

الحق، أن ما يعطي هذه السيدة مصداقية في ما ترويه وما تحوِّل به صفحات والدها المجهولة إلى معلومة، هو أنها لم تسع إلى الظهور لمنفعة، ولا طالبت بمغنم أو إرث. على العكس من ذلك، بدت جينا على امتداد الفيلم الطويل، وأيضاً بعيداً عنه، غير منشغلة بشيء في القاهرة سوى بالبحث عن كل ما يتعلق بأبيها (الريحاني)... هذا الفنان العظيم، لكن بالنسبة إليها أيضاً الأب الحنون الجميل الذي فقدته باكراً وكانت لا تزال في الثالثة عشرة.

أمضت جينا حياتها بين وجودها مع أمها الألمانية ووالدها الريحاني في القاهرة، وسفرها مع الأم وحدها إلى ألمانيا, في تلك السنوات من العذاب خلال الحرب العالمية الثانية التي رصدها الفيلم ببراعة عبر رواية «جينا»، وعبر توظيف دقيق ومرهف للقطات وثائقية عن الحرب في ألمانيا والعالم.

قسّم القليوبي فيلمه إلى مقاطع بعناوين أدبية بليغة. تركز نصف الفيلم الأول تقريباً على رواية «جينا»، ثم الجزء الأخير على بحثها في القاهرة حول كل ما له صلة بأبيها، وفي رحلة البحث هذه صحبتها كاميرا القليوبي... من المسرح الذي لا يزال يحمل اسم «مسرح الريحاني» في وسط القاهرة إلى ضريحه، إلى سجلات في الكنيسة ما زالت موجودة توّثق عمادة الفنان ووفاته وزواجه من الفنانة بديعة مصابني... كذلك صحبتها كاميرا القليوبي إلى جمعية «محبي الريحاني» واستمعنا إلى شهادة مهمة لرئيسها، وإلى بيته الذي كانت بجواره مدرسة أقامتها الدولة في أملاكه وما زالت كائنة باسم «مدرسة الريحاني».

ذهبت جينا الى المدرسة التي تعلّم فيها الريحاني وسعت معها إلى أن تنشئ فرقة مسرحية.

من الكفاءات الكبيرة في السينما المصرية التي ساعدت في إنجاز الفيلم جهود مصمم الديكور المبدع صلاح مرعي والموسيقى التصويرية الممتعة المعبّرة بدقة كبيرة للمؤلف الموسيقي المقتدر راجح داود.

هذا الفيلم التسجيلي المهم، عمل آخر يضيفه القليوبي كفيلم وثيقة، بعد أفلام سابقة بالغة الأهمية، خصوصاً فيلمه الشهير عن رائد السينما المصرية محمد بيومي، وكان للقليوبي بالإضافة الى آخرين، كالباحث السينمائي القدير الراحل عبد الحميد سعيد، دور واضح في اكتشاف أفلام للمخرج والمنتج والمصوّر بيومي.

القليوبي مخرج جاد في السينما الروائية ومخرج وباحث ومجتهد في السينما التسجيلية، وله من الأفلام الروائية أعمال مهمة مثل «3 على الطريق»، و«البحر بيضحك ليه؟». إنه نموذج لعاشق السينما المتفاني، في الإخراج والكتابة والتدريس في المعهد العالي للسينما في الجيزة.

عشق العمل والتفاني به والجدية، أهم ضرورة في حياتنا... لكنه، للأسف، أكثر ما نفتقده بوضوح اليوم!