يقول العالم كله وداعاً للعام 2008 وأهلاً بالعام 2009، ويتمنى الناس في أصقاع المعمورة من أقصاها إلى أقصاها لبعضهم بعضا عاماً سعيداً أو على أقل تقدير أحسن من سابقه، مصحوباً بالسلام والطمأنينة، ومع أن أطفال فلسطين، ولاسيما غزة المحاصرة وأطفال العراق وأطفال أفغانستان والصومال وأطفال جياع العالم والمضطهدين في كل مكان ينتظرون حلول العام الجديد مثلهم مثل غيرهم، وعيونهم تتطلع إلى سانتا كلوز، عسى أن يجلب لهم قطعة حلوى بدلاً من صاروخ وعلبة حليب بدلاً من قنبلة ورغيف خبز عوضاً عن مفخخة وشيء من الفاكهة أقرب إلى الحلم أحياناً، وتعويضاً عن عذابات وحرمانات قاسية لا حدود لها.

Ad

هل سيكون في جعبة سانتا كلوز حيث يجوب مناطق المعمورة ما يكفي لحمل الهدايا لمليار و300 مليون من البشر يعيشون دون خط الفقر، ودخلهم اليومي لا يزيد على دولار واحد وإلى جوارهم متخومون لحد الانفجار؟ إن سانتا كلوز المسكون بالعدالة يقف مكتوف اليدين أمام غول الاستغلال والاستعمار والاحتلال والحصار والجوع وهدر حقوق الإنسان، فماذا عساه أن يفعل، لاسيما في ظل الأزمة المالية الدولية الطاحنة، خصوصاً في الولايات المتحدة وانهيار مؤسسات تأمينية وبنكية كبرى وفوق قومية، وانعكاس ذلك، لاسيما على شعوب بلدان العالم الثالث، خصوصاً في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية؟

وإذا كانت أحلام البشرية وأمانيها تتفاوت خلال احتفالات رأس السنة الجديدة باختلاف الشعوب وطبائعها والبلدان وتاريخها والسلالات والأقوام واللغات بتنوعاتها وتفرعاتها وهويتها، فإن الاحتفالات بهذه المناسبة تمرّ هذا العام، وشعوب البلدان الجائعة والفقيرة يطحنها الجوع ويهيمن عليها الخوف ويلوح حولها شبح المستقبل وصورته الكالحة على نحو لم يحصل في تاريخها المعاصر، وحتى شعوب البلدان الغنية، فإن كابوس الإرهاب وفيروس العنف ومتاريس رجال الأمن وأسلحتهم تهيمن على كل الاتجاهات، لدرجة أن العالم سار نحو العسكرة وودع إلى حدود غير قليلة حياته المدنية المسترخية، في المطارات والساحات العامة وعند مداخل البنوك والمؤسسات والمرافق الحيوية، وأمام الجامعات والكنائس والجوامع وغيرها، وأخذ القلق حد الهلع والرعب يسيطر على العالم أجمع، ولعل الأزمة الاقتصادية والمالية، زادت من غلوائه على نحو كبير جداً.

وإذا كان الاحتفال بليلة رأس السنة قديما، يتخذ مظاهر مختلفة فإنه اليوم يكتسب بُعداً دراماتيكياً ومصحوباً بهواجس إنسانية، وانكسارات قيمية وتراجعات أخلاقية وفوضى عارمة.

كان أجدادنا البابليون قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، أول من احتفل برأس السنة، وكان الاحتفال يستمر سبعة أيام، حيث يبدأ مع بداية الربيع، وكان كل فرد يتعهد بتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في السابق بتعهدات خاصة، وهو ما انعكس على اليونانيين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، واكتسب العيد بعد ميلاد السيد المسيح بُعداً ميثيولوجياً، خصوصاً بعد مأساته التاريخية. فبماذا سيتعهد أوباما؟ أو بالأحرى ماذا يريد سانتا كلوز من أوباما؟ وإذا كان لكل سانتا كلوزه، فإن سانتا كلوزنا العربي الشرق أوسطي يريد منه:

1- اتخاذ سياسة معتدلة في الشرق الأوسط، لاسيما بين العرب والإسرائيليين، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء كإجراء عاجل وإنساني، إنهاء حصار غزة وفتح جميع المعابر وتيسير حركة السكان المدنيين بانسيابية على نحو يضمن حقوق الإنسان الجماعية والفردية، وتهيئة المستلزمات لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين ووقف المستوطنات، طبقا للشرعية الدولية والقرارات الدولية 181 و194 و 242 و338. وهذا يعني مواصلة الجهود التي بذلها الرئيس كلينتون بشأن «الدولة الفلسطينية»، لاسيما في آخر عهده، والتي بردت أو تكاد تكون تلاشت في عهد الرئيس بوش.

2- تنفيذ الوعود التي أطلقها الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق و«إنهاء الاحتلال» خلال فترة لا تزيد على 16 شهراً، والشروع بتخفيض القوات ابتداءً من منتصف عام 2009، ولعل هذا الأمر لا يتعلق بالعراقيين فحسب، إنما يتعلق أيضا بمأزق السياسة الأميركية وأزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي انعكست على العالم أجمع، خصوصاً تحمّل أعباء وتكاليف حربين مفتوحتين منذ عامي 2002 و2003 ومعها «الحرب على الإرهاب الدولي» منذ العام 2001، وهي حروب حقيقية وبلا حدود، وهذا يتطلب من الرئيس أوباما مراجعة جدية وخطوات عاجلة وسريعة، بدلاً من الاستمرار في التوغّل بالمزيد من الأخطاء والخطايا.

وإذا كان الأمر يقتضي عدم حصول فراغ سياسي وأمني وعسكري، وهو مسألة مشروعة ومهمة، فلا بدّ من نقل المسؤولية مؤقتا إلى الأمم المتحدة بصورة تزامنية تبدأ مع الانسحاب، وهذا يحتاج إلى تعهدات من المجتمع الدولي بحماية سيادة العراق لدى تعرّضها للانتهاك من أي طرف خارجي، وتعهد عربي وإقليمي بمساعدة العراق، على إعادة الإعمار، وذلك في إطار خطة استراتيجية دولية، لمعافاة العراق، الأمر الذي يمهّد لإجراء انتخابات ديمقراطية بإشراف دولي وفي إطار التعددية واحترام حقوق الإنسان وفي ظل الخيار الديمقراطي، الذي ينبغي أن يكون حاسماً ولا عودة فيه.

ولعل هذه الخطوة تتطلب إسقاط جميع الديون عن العراق وتعويضه عمّا لحق به من غبن وأضرار طيلة السنوات الماضية، بل الأكثر من ذلك بسبب الخسارة البشرية، لاسيما في العقول والأدمغة ونهب الآثار والممتلكات التاريخية، وتتطلب العدالة الدولية مساءلة المتهمين بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان والمُفسدين ومن قاموا بهدر المال العام في فترة الحاكم المدني بول بريمر أو ما بعده. وسيكون هذا المطلب أكثر مشروعية لاسيما بعد اعتراف الرئيس بوش بأنه خاض الحرب على العراق بناء على معلومات مضللة من المخابرات المركزية الأميركية، و«الاعتراف سيد الأدلة» كما يُقال في القانون.

3- اتخاذ علاقة متوازنة تقوم على أساس الحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع سورية، والسعي إلى إحداث نوع من الانفراج لتنقية الأجواء بدلا من توتيرها مع لبنان، والضغط على إسرائيل للامتناع عن العدوان مجدداً على لبنان واحترام سيادته وإعادة مزارع شبعا إليه، وإعادة الجولان إلى سورية في إطار تسوية سلمية شاملة، الأمر الذي يقتضي أيضاً فتح حوار مع إيران، طبقاً لخطة بيكر-هاملتون (أواخر العام 2006) وإشراكها وسورية في بحث حلول إيجابية في المنطقة.

4- أما ما يخص موضوع الملف النووي الإيراني الشائك والمعقد، فهو يحتاج إلى الصبر والمزيد من الحوار والتفاهم والضغط الدولي السلمي لتقديم ضمانات حول الوجهة السلمية للمفاعلات النووية الإيرانية، وطبقاً للمتطلبات والمعايير الدولية لمنظمة الطاقة وللمعاهدات والاتفاقية الدولية بهذا الخصوص، وعدم الاستخدام للأغراض الحربية، وسيكون الأمر ممكناً إذا ما توافرت فرصة السلام الحقيقي، خصوصاً بإقامة الدولة الفلسطينية والانسحاب الأميركي من العراق، إذ إن مثل هذه الأجواء ستنعكس على ملف العلاقات الإيرانية-الأميركية إيجاباً.

5- دمقرطة المنطقة، ولعلها المسألة الملحّة الأخرى بحكم مسؤولية الولايات المتحدة دولياً، خصوصاً في ظل موقعها كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهذه المسألة هي الوجه الثاني للسلام والتقدم والتنمية، ولعل تشجيع خطط الإصلاح والتحديث والدمقرطة في المنطقة يقتضي فتح حوارات على المستوى الدولي لتنشيط ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لدى الجميع، الأمر الذي يتطلب احترام المعايير الدولية، لاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 4 ديسمبر العام 2000، القاضي بالتنوع الثقافي وعدم وجود موديل واحد للديمقراطية مع تأكيد احترام خصوصيات الشعوب والأمم وتراثها الإنساني، إضافة إلى المشترك الإنساني الدولي. ولعل هذا الأمر يتطلب إشراك المجتمع المدني ومؤسساته في القرار وتطويق الإرهاب، خصوصا ببحث أسبابه وجذوره الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة آثاره بهدف القضاء عليه واستئصال شأفته ووضع حد لهذه الظاهرة المشينة.

باختصار فإن سانتا كلوز العربي الشرق أوسطي إذ يهنئ الشعب الأميركي بهذه المناسبة، فإنه يتمنّى من الرئيس الجديد اتخاذ خطوات شجاعة وجريئة وتأمين فرص حقيقية وعادلة للسلام والديمقراطية والتخلص من أخطبوط الإرهاب، فذلك سيكون لمصلحة العرب والمسلمين من جهة، ولمصلحة الولايات المتحدة وشعبها من جهة أخرى.

* باحث ومفكر عربي