مجرمو الإنترنت... وشرطتها
تفتق ذهن بعض الشبان الأميركيين عن فكرة عبقرية يمكنهم من خلالها الحصول على المتعة والمجد والكثير من المال، عبر استغلال متاعب الحياة وواقعيتها المرة، وتطلع الكثيرين إلى أدوار اجتماعية أكثر أهمية ووجاهة وثراء، ورحابة «الإنترنت» ونفاذيتها وقدرتها على إتاحة التخيل وخلق العوالم الافتراضية؛ فأنشأوا موقعاً للحياة الموازية أسموه «الحياة الثانية» The Second Live. على هذا الموقع يمكنك أن تبتكر لنفسك الهوية التي ترضاها؛ بدءاً من الشكل، إلى التعليم، مروراً بالقدرة المادية، وليس انتهاء بخيارات الحب والاستثمار والمتعة، كما يمكنك أيضاً أن تنشئ علاقات اجتماعية مع الجيران من خلال تلك الهوية، وأن تدير مشروعاتك، وتشتري وتبيع، وتحب وتتزوج، وتمارس الرياضة، أو تلعب القمار، أو تقتني سيارة حديثة، أو تدعو إلى مذهبك، وأن تفعل كل ما قد يخطر على بالك.أمران لا يوفرهما الموقع حتى تلك اللحظة؛ هما: القدرة على ارتكاب الجريمة، ووجود الشرطة التي تطارد المجرمين أو توقفهم توطئة لمحاكمتهم وتلقيهم العقاب في حال الإدانة؛ وهما الأمران اللذان يفتقد الموقع بغيابهما قدرته على محاكاة الواقع... فالواقع من دون مجرم وشرطة محض خيال باهت وطرح خادع عن حقيقة عرفتها البشرية منذ دُونت أحوالها.
فكيف تخلو الحياة الثانية التي يعيشها أعضاء هذا الموقع كاملة ويعيشها كل مستخدم للإنترنت جزئياً من الفاعلين المهمين: المجرم والشرطي، فيما الإنترنت نفسها تحولت ميداناً تتصاعد فيه العمليات الإجرامية بوتيرة أسرع من تلك التي تشهدها الحياة الأولى... حياتنا «غير الإنترنتية».ليس أسرع من تنامي عدد مستخدمي الشبكة عبر العالم سوى الوتيرة التي تزداد بها العمليات الإجرامية والاستخدامات المسيئة للإنترنت، وفيما تتصاعد الأرباح التي يجنيها مزودو خدمات الشبكة وشركات التكنولوجيا ومحركات البحث وأصحاب المواقع التجارية، تتضاعف الخسائر التي يُمنى بها المستخدمون جراء عمليات النصب والاحتيال والسرقة والتدمير لتبلغ عشرات المليارات من الدولارات في شتى مناطق العالم.أحصى الباحثون عشرة أنواع من جرائم الإنترنت؛ منها استهداف الحواسب نفسها، والاعتداء على البيانات أو سرقتها، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وانتحال الشخصية، والمضايقة والملاحقة والابتزاز والتغرير والاستدراج والتشهير وتشويه السمعة والنصب والاحتيال.ويشكو المتضررون من أن ثمة ما يعوق القدرة على الحد من تلك الجرائم؛ مثل صعوبة التعرف إلى الجناة الذين يتخفون وراء أجهزة الكمبيوتر دون الاضطرار إلى زيارة أماكن جرائمهم، وقصور الأدوات القانونية، وكون «الجريمة الإنترنتية» تتمتع بالقدرة على تخطي الحدود السياسية، إضافة إلى نقص الوعي، خصوصاً أن نسبة كبيرة بين مستخدمي الشبكة من صغار السن والمراهقين. والواقع أن العالم لم يعد قادراً على احتمال المزيد من التطور في جرائم الإنترنت كماً وكيفاً؛ فعندما بلغت خسائر الولايات المتحدة الأميركية جراء الجرائم الإلكترونية 14 مليار دولار، بحسب تقديرات المباحث الفيدرالية، في عام 2000، طلب الرئيس كلينتون آنذاك رصد ملياري دولار لمواجهة تلك الجرائم.وتشير معظم الدراسات التي أجريت خصوصاً في العالم الغربي إلى أن جريمة السطو على البنوك والحسابات البنكية إلكترونياً باتت أخطر من عمليات السطو الحقيقية؛ خصوصاً أن نسبة ضبط الجناة في عمليات السطو المسلحة على البنوك تصل إلى 95 في المئة، فيما تنخفض تلك النسبة في عمليات السطو الإلكترونية إلى 5 في المئة.في الأسبوع الماضي، أقر وزراء الاتحاد الأوروبي خطة خمسية تحت مسمى «يوروبول» لمواجهة جرائم الإنترنت، كما خصصوا لها ميزانية تقدر بنحو 300 ألف يورو، وحددوا خطوات عملها في محاولة القضاء على السرقات الإلكترونية، ومواجهة نشر الرسائل غير المرغوب فيها مثل الفيروسات والمواد الإباحية، وتعزيز تبادل المعلومات لملاحقة المجرمين والجرائم، وتوجيه التحذيرات، وتنسيق العمل الاستقصائي، والنصح والإرشاد. يقول القائمون على الخطة إن أحد أهم أهدافها مكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت، خصوصاً أن «نصف جرائم الإنترنت تشمل إنتاج وتوزيع صور إباحية للأطفال».لا شك أن تلك الأهداف في مجملها تحظى بالكثير من التأييد والاحترام، لكن «الشيطان الذي يكمن في التفاصيل» يجعل المرء يرتاب حين يعلم أن الخطة تنطوي أيضاً على «امتلاك القدرة على تفتيش أجهزة الكمبيوتر عن بعد»، و«تسيير دوريات على الإنترنت لملاحقة المجرمين»، وهو الأمر الذي يضرب فكرة «الخصوصية» و«الحرية الشخصية» بل وفكرة الإنترنت ذاتها ضربة موجعة.في شهر أكتوبر الماضي، وقّعت ثلاث من كبريات شركات التكنولوجيا في العالم؛ هي «مايكروسوفت»، و«ياهو»، و«غوغل»، إتفاقاً دولياً للمبادئ، يضمن حماية أفضل لحرية التعبير عبر الإنترنت، ويعد بالتصدي للتدخلات الرسمية والحكومية في هذا الصدد، تحت اسم «مبادرة الشبكات الدولية».ويمكن تلخيص فحوى هذا الإتفاق في تعهد هذه الشركات بالعمل على «تقييد المعطيات التي يمكن أن يسمح للسلطات بالاطلاع عليها»، خصوصاً بعدما وجه ناشطون اتهامات قاسية لتلك الشركات بالتواطؤ مع بعض الحكومات، وإتاحة معلومات شخصية عن بعض مستخدمى الشبكة أودت بهم إلى السجون في قضايا محل جدل. السنوات المقبلة ستكون ميداناً جديداً للصراع بين «مجرمي» الإنترنت وشرطتها، وستكون شركات التكنولوجيا حائرة بين أدوارها في إتاحة المعلومات المطلوبة للسلطات وبين التزاماتها تجاه الحرية والخصوصية وكرامة الإنسان، وستكون الإنترنت حياة ثانية شبيهة بحياتنا تلك الأولى؛ بكل ما فيها من إجرام وقمع وعسكر ومجرمين.* كاتب مصري