درب العنف الأعمى!
للعنف دورة ثابتة لا تحيد؛ فعنفٌ يولّد ويقود إلى عنفٍ أكبر. ومن يقتات، يتنفس ويشرب ويأكل، عنفاً، صباح مساء، لن تُثمر شجرته إلا عنفاً، فكل إناء بما فيه ينضح. ويصح هذا القول على تربية الأطفال، وعلاقة أفراد الأسرة، مثلما يتعدى إلى العلاقة بين أفراد المجتمع، وينتهي عند شكل العلاقة بين المجتمع والسلطة.
إن إشكاليات دورة العنف تنبع من كونها موزعة بين الأفراد والمجتمع، وأن إصلاحها يحتاج إلى دورة طويلة زمنية قد تمتد عقودا، وإن التفكير بكسرها وخلق جيل متسامح ومعافى نفسياً، يتطلب بالضرورة البدء من حضن الأسرة والحضانة والمدرسة، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن القائمين على التربية، في البيت والمدرسة، شربوا عنفاً حتى الثمالة، فإن الأمل في تسامح وتسامي أرواحهم لخلق جيل متسامح يكاد يكون معدوماً. إن الناظر إلى أكثر أشكال العنف انتشاراً يستطيع الوقوف أمام العنف اليومي الذي يتعرض له الأطفال، وأنا هنا لا اقصد شرائح الأطفال المعذبة والهائمة على وجوهها في الشوارع الخلفية وورش العمل الظالمة وأوكار التسول والرذيلة، بل أقصد السواد الأعظم من الأطفال، الذين يعيشون في بيوتهم بين والديهم وإخوانهم. إن ممارسة العنف تبدأ من النظرة العدائية الزاجرة، مروراً بالكلمة والصراخ وعلو الصوت، وانتهاءً باللجوء إلى العقاب سواء بالحرمان أو استخدام اليد أو أي أداة أخرى. وإذا كان أكثر الآباء والأمهات، الذين يحلو لهم أن يصفوا أنفسهم بالمتعلمين والمثقفين والمتنورين، لا يتورعون عن تجاهل تربية أطفالهم، ونهرهم وإهانتهم لأتفه الأسباب، متناسين أن اللجوء إلى العنف يُعد تعبيراً عن العجز لا عن التفوق. فكيف يمكن، والحالة هذه، الوثوق بتنشئة جيل معافى نفسياً يستطيع مواجهة مأزق الحياة العصرية الحديثة، مؤمناً بالحوار السلمي، وواثقاً بنفسه، وقادراً على إقامة علاقة صحيحة وصحية بينه وبين من يحيط به من جهة، وبينه وبين سلطة المجتمع المدني من جهة ثانية؟. إن إشكالية التربية تتطلب وعياً من الآباء والأمهات بأنهم الطرف الأقوى، وأن الأطفال هم الطرف الأضعف، لأنهم أقل وعياً وخبرة بالحياة، ولأنهم لا يمتلكون وسيلة للدفاع عن أنفسهم، وهذا مجتمِعاً، يستوجب العلمية والرحمة والمنطق في التربية. في إحدى جلساتي مع صديق يعمل طبيباً نفسانياً، قال لي: «الإنسان البدائي كان قادراً على تربية أبنائه بطريقة أفضل مما يفعله البعض هذه الأيام». ولأنني بقيت أنظر إليه منتظراً تفسيراً لجملته، قال بهدوء نبرة صوته: «الإنسان البدائي كان يحنو على أبنائه، ويترك لهم اكتشاف ومعرفة أمور حياتهم في دروب العيش». وقفت أمام جملة صديقي الطبيب كثيراً، فنحن نريد لأطفالنا أن يكونوا كما نريد لهم في كل شيء. نقمعهم معتقدين أننا الأكثر وعياً ونضجاً، وأننا نقدم إليهم الأصلح والأهم والأفضل، وعليهم بالتالي أن يأخذوا به من دون نقاش، طائعين أو مجبورين، وأن رفض أحدهم أياً من تعاليمنا لابدَّ أن يواجه بالحسم لأنه طفل ولأنه لا يعرف ما يصلح له، ولأنه يجب أن يتربى على الانضباط والطاعة، وأنه وأنه وأنه. العالم العربي يتطاحن قتلاً يومياً من أقصاه إلى أقصاه، لا لغة تسود أرضه أوضح من لغة العنف والدم ونفي الآخر، وأظن أن تفكيراً بالقادم من الأيام يحتم علينا أن نعيد النظر في تربية أبنائنا، وفي علاقتنا بهم. فجميل أن نحبهم، وجميل أن نحرص عليهم ونفكر في مستقبلهم، ولكن جميلاً أيضاً أن نعطيهم فرصة للتعبير عن مشاعرهم، وبالتالي عيش لحظات أعمارهم كما يحلو لهم، ونجرب لمرة واحدة دور الموجه المحب لا ضابط المخفر الظالم.