الانتخابات الأميركية بين الغرق والإغراق
الاهتمام بالشأن الأميركي وبمفرزاته الانتخابية بات ضرورة سياسية واقتصادية لما له من تأثير على حياة الشعوب ومستقبلها، بل على مستوى الاقتصاد العالمي باعتبار أميركا قطب الحركة والاقتصاد، بل مركز القرار العالمي.. ولهذا فإن أي تداعيات على أي مستوى يعرّض المنظومات المالية الدولية إلى الارتجاج وفقدان السيطرة، كما يحدث الآن.ارتكاز الحياة السياسية الأميركية على عمودين: الجمهوري والديموقراطي، المتناوبين على القيادة فيها يعتبر نقصا في السيولة الديمقراطية القائمة على التعدد، ولهذا نرى قدرة التفاهم والمساومة لتمرير مشروع ما بينهما يكون أكبر من قدرة المحاسبة مهما تعددت الأخطاء السياسية التي غالبا ما يتحمل الرئيس مسؤوليتها بالاعتذار للشعب، أو يتحملها أحد أتباعه بالاستقالة عندما يكون الثمن كبش فداء، وهذا ما حصل في أخطاء حرب العراق، حيث الثمن كان رئيس «CIA» باعتباره مصدر المعلومات- رغم معرفة الرئيس وأتباعه بالحقائق المزورة ـ أما على الصعيد البنيوي فإن لكلا الحزبين لوحة خلفية تساند المشهد، وتوضح الصورة وتبين الاتجاه، فالجمهوريون واجهة شركات النفط والسلاح، وهذا يجعل فترة حكمهم تتسم بالتوتر والحروب وتصاعد برامج التسلح والامتداد نحو الحفر والسيطرة على النفط خلافا للديمقراطيين الذين يمثلون أكثر القطاعات المدنية... ولذلك تكون مرحلتهم أهدأ إلى حد ما لأن مصلحة لوحتهم الخلفية في الاستقرار واتباع الطرق الدبلوماسية أولاً لحل الإشكال وتحقيق النصر، ومن هنا تأتي أهميتهم لمعالجة مشاكل الاقتصاد وزيادة النمو الداخلي، وفترة الرئيس بيل كلينتون خير مثال، تحققت فيها قفزات كبيرة في الدخل الأميركي اقتصاديا واجتماعيا، وأما على الصعيد العربي فإنهما بلا شك متفقان في الاستراتيجية والتكتيك مع بعض الاختلاف في الرؤية، أي أن إسرائيل خارج إطار النقاش، ومن يتقرب منها أكثر يحظى بالرعاية أكبر.
الهبوط الاقتصادي العالمي كان بفعل السياسات غير المنضبطة والمتهورة للإدارة الأميركية، والذي ألقى بظلاله على الانتخابات وعلى مجمل برامج المرشحين لأنه أهم شأن يجب التداول فيه، ولأن إهماله أو حدوث أخطاء في معالجته له نتائج سلبية على مستقبل أميركا أولا وعلى بقائها كقوة عالمية... مع الأخذ بالاعتبار بأن التركة ثقيلة والملفات ساخنة جدا، وتحتاج إلى قدرات خارقة لإدارتها، ولن تنفع المهارات الكلامية في المناظرات ولا البرامج الطموحة- التي عادة ما تغرق الناس بالتفاؤل لكسب التأييد- في المعالجة إذا ما أُخِذت المتغيرات السياسية والاقتصادية والمالية التي نشأت والتي ستنشأ بعد هذا الانهيار المالي العالمي في الحسبان، وأولها تعدد الأقطاب، وهذا يستدعي تعديل الأسلوب ونمط التفكير واعتماد الواقعية طريقاً للحل بعيدا عن الفرعنة القطبية. يعتبر الصندوق الديمقراطي الوسيلة الأصلح للاختيار ولكن أحيانا تكون النتائج غير مناسبة والفرز يأتي بالكاسد والراسب نتيجة للضخ الإعلامي غير المسبوق والقادر على تحويل الدهون إلى بروتين، والنيكوتين إلى مصدر طاقة ونشاط، ويخلق من القزم عملاقا، وهذا ما لمسناه منذ مطلع هذا القرن إلى الآن بأن المنتج الديمقراطي في المنظومة الليبرالية لم يكن مناسباً بل غير صالح للاستخدام الآدمي، والذي انقلب على كل القوانين الدولية، وتصرف وفق شريعة هي أقرب للغاب، فجعلت من المنظمات الدولية وسيلة للابتزاز وفرض الوصايات، وأعطى أسوأ نموذج لليبرالية وللتغيير الديمقراطي، مما انعكس كارثة على الاقتصاد والسياسة، وعلى مستقبل الشعوب، وهذا الانهيار هو أحد أسوأ نتائجه، ولا ندري ما سيحدث للعالم الثالث من تبعات كارثية لهذا الوضع باعتبارها جزءا منه.المؤشرات الانتخابية تعطي الأفضلية للديمقراطيين باعتبارهم الأقدر على الإصلاح، وهذا بالطبع سينعكس على ملفات المنطقة التي من المفترض أن تشهد تغييرات استراتيجية، أولها بدء الانسحاب من العراق- حسب برنامج أوباما- وثانيها أن الأزمة لا تسمح بحسم الملف الإيراني، وستكون المعالجة دبلوماسية مع مكاسب مهمة لإيران.. وأما الملف الفلسطيني فسيكون عادة ملف «تبييض الفال»، ففي كل آخر فترة انتخابية يحضر الملف ويغيب في البدايات، والآمال غير معقودة على أي طرف للحل لأن الأزمة المالية ستكون الشغل الشاغل للمجتمع الدولي.ولا ننسى أخيرا، بأن ملف الطاقة والاتجاه نحو الاستثمار «بالطاقة النظيفة» بعيداً عن بترول الشرق الأوسط، هو أولوية في برنامج أوباما.. فقد ينقسم النظام العربي بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك، ولكن الشارع العربي متفق بأن الوجهين هما لعملة واحدة، ولا فرق بينهما سوى في الشكل واللون، والمراهنة عليهما خاسرة ولكن المراهنة على الشعوب هي الرابحة مهما تكسرت أجنحتها.