لم يجد المفكرون والفلاسفة القدماء والمحدثون سبلا توفيقية بين فهم النص - الموروث الديني المقدس، وبين العقل القيّم على الأفكار الدينية - غير الدينية والأخرى المختلفة، إلا من خلال الفصل التام بين الفكر النقلي والفكر العقلي.

Ad

يعتقد كثير من الناس أن الفكر/ الموروث الديني قائم على الاستدلالات العقلية والحقائق الثابتة، سواء كان ذلك الموروث تاريخياً أو عقدياً. ويؤكد العقل الديني من خلال الاعتقاد بقطعية المعرفة الدينية بأنها معرفة حقة لا يمكن اختبارها ولا إخضاعها لميزان العقل ومنهجياته المختلفة. ويتم توارث المعتقدات عبر الأجيال المختلفة دون الاهتمام بالعامل الزمني الكفيل بدحض الكثير من تلك المعتقدات الدينية من خلال مدارس عقلانية انبرى لوضعها الفلاسفة والمثقفون. لذلك على المؤسسات الدينية العمل على فك الاشتباك (بين ماذا؟) والقبول بالنقد المنهجي من الآخرين، والنظر بعين الاعتبار إلى أن الأدلة العقلية لا تخضع لقدسية أصحابها ولا لقدسية فهم النص الديني.

الفكر الإنساني/ الأرضي يسير بخط متوازٍ مع العقل ومع منهجية البحث العلمي، بحيث تتم معالجة الفكرة /دحضها/قبولها بموازين وأسس عقلية بشرية بحتة، لا قدسية فيها لأي فكرة أو نظرية أيا كان قائلها، بل تتم المعالجة بمدى انسجامها مع موازين العقل البشري فقط. وعدم قبول منهجية البحث العلمي والنقد البشري لتلكم أو غيرها من الأفكار، يجعل النظريات الدينية أو غيرها من المنظومات الفكرية تتحول إلى إيديولوجيات فكرية متطرفة تتلاشى مع مرور الزمان كحال الكثير من الإيديولوجيات الفكرية التي لا تقبل التجديد ولا الآراء الأخرى المناقضة لأفكار الزعامات الدينية المقدسة.

لايزال القائمون على دراسة النصوص الدينية في الفقه الديني من الديانات والمذاهب المختلفة يمارسون دورهم البدائي في بحث واستقصاء الحقائق عبر مفاهيم الفقه الديني القديم، القائم على المسلمات العقدية والموروثات التي تجاوزت الزمن منذ قرون. واستمرار الطقوس الدينية في المراسم «العاشورية»، على سبيل المثال من بكاء ونواح ولطم واجترار للماضي دون أدنى عناء من الطبقة المتعلمة من الطائفة الشيعية حول جدوى تلك المراسيم ومدى تأثيرها على حياة الكثير من أبناء الطائفة، أو عناء البحث عن كيفية نشأة تلك الطقوس في حياتنا والتي أخذت بُعدها الغيبي لا البشري، ليس سوى ممارسة متوارثة كان لها- ربما- الأثر في بنية الحياة في عصر من العصور، إبان الصراعات التاريخية بين الصفويين والعثمانيين. ولعل استغلال الصفويين لتلك الشعائر بغية التأثير على العقل الشيعي لتكبيل إرادتهم، ساهم في استمرار بقاء سلطتهم السياسية أو الخوف من انحسار سلطة الفقهاء كشريك أساسي في المؤامرة على أبناء الطائفة. ومن يريد أن يستزيد في هذا الشأن ما عليه سوى مراجعة كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» للدكتور علي شريعتي، الذي يشير خلاله إلى دور الدولة الصفوية في إذكاء الصراع الطائفي وتأصيل دور الطقوس والشعائر الدينية ويبين دورها الفاعل في تشكيل هوية الشيعة حتى يومنا هذا.

لكن استمرار تلك الممارسات والشعائر تدعونا إلى اليقين/ التأكد بأن الفكر الديني والقائمين عليه من رجال دين شديدي الحساسية والتعصب تجاه كل ممارسة نقدية، قد تفقدهم هذه الممارسات السلطة التي اكتسبوها. وادعاءات الكثيرين من رجال الدين وغيرهم بتسامحهم وقابلية نقد هذا الميراث، هو من أجل الاستهلاك المحلي ولا يمت بصلة إلى الواقع المعاش، والشواهد كثيرة التي تدلل على تطرف رجال الدين ضد من قاموا بمحاولة نقد وتجديد بعض الممارسات والأفكار من أمثال الشيخ النائيني ومحمد حسين فضل الله وأحمد الكاتب وعبدالكريم سروش وغيرهم ممن وصموا وألصقت بهم أشد الصفات والنعوت السمجة.

الأفكار والمقدسات الدينية التي تسير عبر دائرة التسليم ومن خلال الاعتقاد باليقينيات القطعية والإيمان بالمسلمات الدينية أو الفكرية مع إخضاع الآخرين لتلك المسلمات من خلال الترهيب الأخروي أو الدنيوي، هي بمنزلة وأد لدور العقل النابض بالمعارف المتجددة.

إن مفهوم التجديد والتطور عند رجال الدين هي فكرة شعاراتية وإعلامية، لإيهام الكثيرين بأنهم مجددون وإصلاحيون، شريطة أن تكون المبادرة والإصلاح عبر المؤسسة الدينية الخاضعة لسلطتهم، متناسين التاريخ الطويل للنزاعات والتأويلات المختلفة بين الطوائف الدينية والقائم على الإقصاء. ولم يبادر أي من المرجعيات والزعامات الدينية لفك تلك النزاعات أو بمحاولة حقيقية للبحث في إمكانية إيجاد أرضية مشتركة بينهم لوقف التشنج المذهبي، بسبب أن تلك الممارسات التقويضية للتعايش بين المذاهب والأديان إنما صنعها رجال الدين أنفسهم في سبيل استمرار النهج الديني المتشدد وما تغدق عليهم الصراعات من أموال وشهرة في ميدان الدفاع عن الطائفة.

لم يجد المفكرون والفلاسفة القدماء والمحدثون سبلا توفيقية بين فهم النص - الموروث الديني المقدس، وبين العقل القيّم على الأفكار الدينية - غير الدينية والأخرى المختلفة، إلا من خلال الفصل التام بين الفكر النقلي والفكر العقلي.

الاعتقاد الديني والعقل لا يلتقيان، بسبب اختلاف النهج ومنطقهما في تفسير الظواهر الكونية وخفايا الوجود، كما لا يستقيم العقل وقيم التقديس لنص أو لشخوص دينية. وعلى الإنسان الإدراك وتحقيق القيم الأخلاقية من خلال الفهم العقلاني للحياة والطبيعة. وبذلك الفهم يدرك الإنسان حقيقته ومكانه في الكون، ويدرك محدودية طاقاته الخاضعة للعقل الواقعي لا العقل الغيبي. ولا حيلة للإنسان في ذلك إلا عبر فهم قوانين الحياة وتبنيه لقيم الحرية الفكرية، والانسجام مع من حوله من الناس مع اختلاف عقائدهم وألوانهم. وذلك لا يتأتى إلا من خلال العقل والفهم والبحث عن فلسفة وجود هذا الكائن على هذه الأرض.