أحالت وزارة الداخلية السعودية، منذ أسبوعين 991 متهماً متورطاً في العمليات الإرهابية إلى القضاء الشرعي، تمهيداً لمحاكمتهم وفق نظام القضاء الشرعي المعمول به في المملكة، وذلك بعد أن استكملت بحقهم قرارات الاتهام، ويمثل هؤلاء المتهمون، أغلبية معتقلي «القاعدة» في السجون السعودية، والذين قبض عليهم سواء أثناء تنفيذهم العمليات الإرهابية أو عبر الضربات الاستباقية للخلايا الإرهابية، وقد وجه بيان وزارة الداخلية إلى المتهمين، الذين اصطلح على تسميتهم بحسب العرف الإعلامي السعودي بـ«الفئة الضالة» تهماً عديدة أبرزها ما يزيد على 30 عملية داخل السعودية، شملت صنوف «الحرابة» من تفجير واغتيال وخطف وترويع، وما ارتبط بذلك من تهيئة وتدريب وتجهيز وتمويل وتحريض وتثبيت، كان في طليعتها انفجارات شرق الرياض الثلاثة، ومجمع المحيا، ومبنى الإدارة العامة للمرور، ومقر وزارة الداخلية، ومقر قوات الطوارئ الخاصة، ومصفاة بقيق، واغتيالات الخبر التي استهدفت المواطنين والمستأمنين ورجال الأمن والوطن في اقتصاده ومقدراته وقوت أبنائه، وقد أحبطت قوات الأمن السعودية ما يزيد على 160 عملية، وذهب ضحايا تلك العمليات 74 شهيداً من رجال الأمن وأصيب 657 منهم، إضافة إلى سقوط 90 قتيلاً من المدنيين الأبرياء وجرح 439 وذلك على امتداد 5 سنوات من العمليات الإرهابية التي ضربت المملكة، بدءاً من 12- 5- 2003.

Ad

«ألف» إرهابي يحاكم ولأول مرة في مجتمع خليجي، حدث غير عادي، لكنه مر دون أي اهتمام أو تعليق من الكتاب والمعلقين في الساحة الإعلامية الخليجية والعربية، مع أنه حدث جدير بكل اهتمام، فمن لا يهتم بأمر التطرف، وأن محاربته -فكرياً- هي معركتنا الأساسية -اليوم ومستقبلاً– كما هي معركة مليار مسلم، لا يستحق أن يكون مثقفاً حقيقياً. إن تفكيك هذا الفكر المعرقل لحركة مجتمعاتنا نحو التقدم والتنمية، ومواجهته والاشتباك معه هو المعركة المصيرية الحتمية إذا أردنا تجاوز الأفكار الظلامية والتعصب والتكفير والقتل والذبح.

الآن ما دلالات ومؤشرات هذا الحدث الكبير؟

إن دلالات هذا الحدث الضخم ونتائجه لا تقتصر على المجتمع السعودي فحسب، بل تشمل كل المجتمعات الخليجية والعربية والإسلامية، فكل مجتمع عربي وإسلامي مشتبك فيه بدرجات متفاوتة، ونوضح هذا الأمر فيما يأتي:

1- «ألف» إرهابي، رقم قياسي لا يستهان به، وإذا عرفنا أن هذا العدد يمثل الدفعة الأولى المحولة لهذه المحاكمة، وأن هناك دفعات أخرى ستحال إلى المحاكمة تباعاً بعد استكمال إجراءات التحقيق معها، وهؤلاء غير الجماعات المنتمية إلى الخلايا النائمة، والمتعاطفة مع الفكر القاعدي، إضافة إلى الجماعات التي تحارب في الساحة الخارجية، أدركنا حجم الكوارث المحيطة بالمجتمعات الإسلامية، وهذا يضاعف مسؤلياتنا تجاه هؤلاء الشباب، وأعني بوجه خاص مسؤولية التربويين والآباء والمعلمين والدعاة والمشايخ والكتّاب والمثقفين والإعلاميين، وكذلك مسؤوليات المؤسسات الدينية الرسمية بالأخص.

إن نجاح الفكر القاعدي في اختراق حصون التربية والتعليم، والمؤسسات الدينية ومنابرها، وتجنيد آلاف الشباب المسلم لمشروعاته العدمية، لهو دليل واضح على وهن دفاعاتنا الفكرية والتربوية والدينية، وضعف تحصيننا الثقافي، وهذا يستوجب منا سرعة مراجعة المنظومة الثقافية الحاكمة لمفاصل مجتمعاتنا، للوصول إلى عوامل الخلل الأساسية الكامنة في المنظومات التربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية، وكفانا ترديداً لمقولة «إن الإرهاب لا دين له ولا وطن له ولا جنسية» فهذا صحيح، والدين بريء من الإرهاب، ولكنها لا تحل القضية، ولا تعالج أصل الخلل العميق في الفهم المشوه للدين، والمتمثل في فهم تلك الجماعات الإسلامية التي تمارس العنف باسم الدين، وتحت غطاء الجهاد والاستشهاد ونصرة الدين.

2- إذا كان هذا الرقم الضخم المتورط في العمليات الإرهابية قد استحل القتل والتفجير والتدمير، واستباح الخروج المسلح على مجتمع كالمجتمع السعودي معروف بأنه يتحاكم إلى الشريعة، وينفذ الحدود الشرعية كاملة ويحرص على غرس العقيدة -بالمفهوم السلفي- في نفوس الناشئة وحمايتها ويحافظ على كل المظاهر الإسلامية، ويمنع جميع مظاهر الفساد والتحلل الأخلاقي والرذيلة ويحارب المنكرات والبدع والشركيات، ويقف موقف الرفض لجميع مظاهر الحياة الغربية لدرجة أن السينما ممنوعة، كما لا يوجد في المجتمع السعودي من يتطاول على الدين أو يطعن في الثوابت أو ما يسمى بالتطرف العلماني مما قد يعد ذريعة لاستفزاز تلك الجماعات المتشددة ومبرراً لخروجهم وتمردهم، أقول: إذا كانوا هؤلاء قد استحلوا الخروج على مثل هذا المجتمع، فما بالنا بالمجتمعات الخليجية والعربية والإسلامية الأخرى؟!

إن هذا الخروج وتلك الاستباحة، يعريان تماماً كل الطروح التي تلجأ إلى تبرير العمل الإرهابي بتلمس دوافع خارجية مثل الصراع الدولي وقضية فلسطين والقوى المعادية أو تبرره بالعامل السياسي الداخلي مثل: عنف الدولة ضد الإسلاميين وتعذيبهم في السجون أو غياب الديمقراطية والقمع السياسي أو تفسر العمل الإرهابي بالعامل الاقتصادي كالفقر والبطالة أو العامل الاجتماعي كالتحلل الأخلاقي وشيوع الرذيلة والفساد إلى غير ذاك من التبريرات التي تحاول الالتفاف على العلة الأساسية في الفكر الإرهابي وهي «العقيدة التكفيرية» المستحوذة على تفكير تلك الجماعات، كما توصلت إليها كل التحقيقات مع تلك الجماعات سواءً في السعودية أو في غيرها فهؤلاء الشباب لا تشغلهم قضايا الحرية والديمقراطية، ولا يعانون ضيقا اقتصاديا، كما لم تستفزهم مظاهر الانحراف الأخلاقي ولا يعنيهم الصراع الدولي ولا حتى قضية فلسطين، هؤلاء يحكمهم فهم ضال للشريعة، وهم نتاج أو ضحايا بنية تعليمية وتربوية لقّنتهم مفاهيم خاطئة عن «الجهاد» و«تغيير المنكر» و«الأمر بالمعروف» و«الولاء والبراء» و«التكفير» و«العلاقة مع غير المسلم»، وقد أشار بيان الداخلية إلى ذلك بقوله «إن المنتمين إلى الفئة الضالة يعتنقون تكفير المجتمع انطلاقاً من فكرهم المنحرف»، إذاً هناك فكر منحرف هو الموجه والقائد لتلك السلوكيات المنحرفة، وإن عقيدة التكفير، هي الأساس المحوري في تفكير وفي نفسية هؤلاء تماماً كالخوارج الذين كفّروا الصحابة واستحلوا دماءهم وأموالهم.

3- إنه لأول مرة في تاريخ محاكمات التنظيمات الإرهابية، تضم اللائحة الاتهامية فئتين جديدتين، إضافة إلى المنفذين ومساعديهم والممولين الداعمين، هما «المحرضون» و«المثبتون» أما فئة «المحرضين» فقد ضمت شخصيات دينية كالخضير والفهد والخالدي وآل شويل وابن سهاج والجوير، وأما فئة «المثبتين» فهي الذين يقومون بتثبيت عزيمة من نوى القيام بعملية انتحارية، والشد من أزره ورفع حالته المعنوية والدعاء له، لكي لا يعدل عن قراره بالانتحار، ويأتي دور المثبت قبل وقت تنفيذ العملية بمدة وجيزة، وحسناً فعلت وزارة الداخلية بضم هاتين الفئتين إلى لوائح الاتهام، وإحالتهما إلى المحاكمة، فإن دور المحرض أشد خطورة من دور المنفذ، لأن المحرض بحكم نفوذه وسيطرته على بعض المنابر التعليمية والإعلامية له الهيمنة والتمكين في نفوس وعقول بعض الشباب الغر المتحمس دينياً والمهيأ للعمل العنيف، فالملاحظ أنه لا يكفي أن يكره شخص غيره، أو أن يتعصب ضده ولا حتى أن يكفره ويخونه حتى يستبيح دمه، فلابد من قوة غلابة تدفعه دفعاً لكي يمارس العنف ويفجر نفسه في الآخر الذي يكرهه ويعاديه، وهذا ما يقوم به المحرض -فعلاً- عبر تزيين العمل الإجرامي في نفسية وعقلية الشاب المتحمس، والإيحاء له بأن عمله هذا، نوع من الجهاد، وأنه إذا قتل فهو شهيد، ومكافأته الجنة وأن حورها في انتظاره، وما عليه إلا أن يسارع في التنفيذ.

في تصوري أن هذه الخطوة السعودية في محاكمة المحرضين، تستحق الإشادة والتأييد والمباركة من قبل كل المهتمين بقضايا الفكر الإرهابي، لأنها، حسب ما أتصور، تعد الأولى في تاريخ المحاكمات، وهي أيضاً، أول تفعيل لمقررات «قمة مكة» في ديسمبر 2005 التي حضرها قادة العالم الإسلامي وأصدروا بياناً ختامياً مثّل عزم القادة جميعاً على مواجهة الفكر المتطرف، المتستر بالدين والمذهب «دعماً وتمويلاً وتحريضاً»، لقد جرمت «قمة مكة» التحريض بكل صراحة تماماً كما جرمت العمل الإرهابي دعماً وتمويلاً، ويجب التذكير في هذا المجال بأن مجلس الأمن في قراره التاريخي في 9- 2005 رقم 1626 دعا كل الدول إلى اتخاذ خطوات لمنع التحريض في مجالات التعليم والثقافة، وفي المؤسسات الدينية، وحرمان الإرهابيين ومن يشتبه في تحريضه على الإرهاب من الملاذ الآمن.

* كاتب قطري