لا نحتاج إلى جهد كبير لكي نعرف كيف تنهار الدول أو تتلاشى أو تتحول إلى كيانات وهمية دون مضمون ولا سيادة... فالتجارب ماثلة أمامنا، وتجري أحداثها، أو جرت منذ أمد قريب، في لبنان والصومال ومناطق عدة في وسط وغرب إفريقيا وأميركا الجنوبية، وكلها يثبت أن بداية تآكل الدولة الذي يؤدي إلى انهيارها هو تلاشي سلطة القانون بها تدريجياً لمصلحة مرجعيات بديلة أخرى، وتضعضع الانضباط في المؤسسات العسكرية المطالَبة بالسهر على حماية الدولة وتطبيق القانون، وانجرارها خلف المرجعيات الدينية الطائفية والفئوية والعرقية، وتدخل مَن ليس له شأن فيها. لذلك، فإن الدول الراسخة والقوية تعاقب مَن يتدخل في مسائل الانضباط ووحدة وسلامة القوى العسكرية الوطنية بأشد العقوبات.

Ad

في الكويت تتزايد منذ سنوات مظاهر تآكل سلطة القانون وبشكل رئيسي لمصلحة الاجتهادات الدينية واعتبارات اجتماعية مختلفة، ولكن أخطرها كان أخيراً عندما أفتى المتخصص في شؤون الشريعة الإسلامية د. عجيل النشمي في شأن بالغ الخصوصية والحساسية يتعلق بمظهر من مظاهر الانضباط العسكري، برفضه تحية الشرطي لزميلته الأعلى رتبه منه، والغريب أن النشمي ضمَّن فتواه مسببات لا علاقة لها بالشرع وتتعلق بموروث قبلي، كما أشار في حيثياتها.

وبالتأكيد، فإن للتحية العسكرية مدلولاً سلوكياً انضباطياً لتسلسل الأوامر العسكرية وحسن تنفيذها، ولذلك كان الخبر الذي نشرته صحيفة «الجريدة» في عددها الأربعاء الماضي تحت عنوان «تحية المرأة الضابطة تقابل بعصيان عسكري في الداخلية... اتجاه لحل المعضلة بـمنح الضابطات 50 ديناراً بدل تحية»... دليلا على أثر تلك الفتوى على قوة الشرطة ومعايير انضباطها، التي تنعكس على كفاءة القيام بواجباتها الوطنية، وأيضا كان الأخطر في الخبر أن وزارة الداخلية تفكر في حل المشكلة بواسطة المال بمنح بدل نقدي، وهو تنازل جديد وخطير عن مبدأ وجوب تطبيق القانون، خصوصاً أن مسلسل التنازلات الذي بدأ بالسماح بإطلاق اللحية للعسكريين سيتوالى بعد أن أصبح المال بديلاً عن الانضباط واحترام التراتبية العسكرية.

ما فعله د. النشمي بهذه الفتوى العلنية هو ممارسة خطيرة تتعلق بسلامة ووحدة وانضباط المؤسسات العسكرية دون طلب منه وتنطبق عليه مواد قانون الجزاء (قانون رقم 31 لسنة 1970 بتعديل بعض أحكام قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960) وتحديداً المادة (26) منه التي تنص على:

«كل من حرض أحد أفراد القوات المسلحة أو الشرطة على التمرد، ولم يترتب على هذا التحريض أثر، يعاقب بالحبس المؤقت مدة لا تجاوز خمس سنوات ويجوز أن تضاف إليه غرامة لا تجاوز خمسمئة دينار. تكون العقوبة الحبس المؤبد، الذي يجوز أن تضاف إليه غرامة لا تجاوز ألفا وخمسمئة دينار، إذا وقعت الأمور التي حرض عليها نتيجة لذلك التحريض وهذا دون إخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها القانون».

بلا شك، إن لتدخل د. النشمي أثراً سيمتد انعكاسه على الدولة ويتطلب تحركا من أجهزتها حتى يكون رادعا للآخرين، فما هي الحال إذا خرجت علينا غدا فتوى أخرى تعتبر أن إرهابيي «القاعدة» هم مجاهدون لا يجوز لرجال الأمن أن يتصدوا لهم أو يلاحقونهم؟ إن التغاضي عن مثل هذه الممارسات وتراكمها له أثر بالغ الخطورة على البلد ووحدته والمؤسسات المكلفة بالحفاظ عليه.

لذا، فإن إحالة د. عجيل النشمي إلى المحاكمة لمخالفته القوانين والتدخل في شؤون قوة عسكرية بدعوتها لعدم القيام بواجب انضباطي عسكري لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه.

***

بيان جمعية حقوق الإنسان حول فتوى النشمي كان موفقا وجاء في توقيت مناسب... ولكن المستغرب هو سكوت القوى السياسية المدنية وجمعيات النفع العام كافة حيال ممارسات لجان برلمانية عندما استدعت ممثلين عن الإفتاء لمناقشة قوانين اقتصادية، مخالفةً بذلك مواد الدستور واللائحة دون أن تتلفظ ببنت شفة... فهل كان تغيب المبدأ بسبب أن الأمر معني بقروض المواطنين؟!