أضحت الندّية المكتسبة، أداة إجحاف ووسيلة تنصل من المسؤولية، بحيث أضحى على الفلسطينيين، أن يطالبوا بحقهم في «اللامساواة» بينهم وبين إسرائيل، أقله ما لم تقم لهم دولة، بحقهم في أن يعاملوا كشعب في خطر، لا كمجرد خصم في مواجهة خصم، في صراع قوة مثلا، طالما أن الأمر لا يتعلق، بكفّ غلبةٍ بل بصون وجود.ربما توجب على الفلسطينيين، الذين يعيشون الذكرى الستين لنكبتهم ويكابدون صراعهم المرير ضد الدولة العبرية، أن يطالبوا بـ«اللامساواة» بينهم وبين خصمهم، في تعاطي العالم معهم، بعد أن سعوا إلى نقيضها طوال ردح من تاريخهم الحديث، ينشدون، حيث تعذر الانتصار لهم ودعمهم، حدا أدنى من توازن يبدي حيالهم نصيبا من التفهم، قد يقصر عن دعمهم ويتقاعس، ولكنه قد يداني دون أن يطمح في أن يضارع وأن يماثل، ذلك الذي تتمتع به الدولة العبرية.
كان ذلك هدفا سعت الحركة الوطنية الفلسطينية، في أطوارها السابقة، في طلبه ولجّت في التماسه، إلى تصويب انخرام كانت تراه فادحا مجحفا، كانت تطلب توازنا في التعاطي، وسيلة لنيل الإقرار بها وجودا وأمرا واقعا، وللظفر بالاعتراف بها قانونا، ولإضفاء صفة الطرف المسؤول عليها، «شريكا» في تفاوض وفي تسوية تفضي إلى سلام، وهي على أي حال من شروط بلوغ الاستقلال والدولة الوطنية.
بدا كأن اتفاقات أوسلو وانطلاق مسار التسوية في مفتتح العقد الأخير من القرن الماضي، قد أثمرا ذلك التوازن المنشود، إن لم يكن على النحو الناجز والمرجوّ، فبقدر معقول، واعد بأن يتكفل التوصل إلى الحل النهائي باستكماله. فكان أن قام ضرب من ندّية بين طرفي النزاع، أقله من قبيل شكلي، في الإعلام مثلا، أو قانوني أحيانا، فدخلت مفردات من قبيل «التنازلات المتبادلة» وما كان من طبيعتها وفي عدادها، حيز التداول وأضحت تشكل بعضا من قاموس نزاع الشرق الأوسط.
غني عن القول أن شكلية تلك الندّية ليست، في ذاتها، مأخذا عليها، بل هي من شروط الانخراط في نسيج عالم تقوم العلاقات بين مكوناته، دولا-أمما (إن لم يكن فعلا فقانونا) أو من تشكيلات ما قبل الدولة أو المرهصة بهذه الأخيرة، على مثل تلك المساواة الشكلية بينها، مهما كان حال ميزان القوة، وعدّ ذلك من أهمّ مكتسبات الحداثة، إذ يفترض مساواة نظرية وحقوقية بين غير متساوين قوةً وسطوةً، فيجعل صوت دولة فيجي، مثلا، نظير صوت قوة كبرى كالولايات المتحدة، في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في سواها من المحافل الدولية، بحيث لا يتم خرق تلك القاعدة القانونية السارية على العلاقات بين الدول، إلا بترتيب استثائي، شأن ما هي حال مجلس الأمن وحيازة أعضاء فيه على العضوية الدائمة وعلى حق النقض، وهذان أنانيّا الاستخدام غالبا، يُحلان الإقرار بمبدأ القوة، وبالاستثناء استطرادا، في ما يُفترض أنه الوظيفة النمطية (normative) للقانون...
لكن النّدّية تلك، وإن عُدّت على شكليتها تلك بل بسببها، مكسبا، ما لبثت أن ارتدت فعليا وعمليا على الجانب الفلسطيني وأضحت، في أفضل حالاتها، ضربا من رياء من قبل عالم، قوى نافذة وهيئات وإعلاما، تساوي المعتدي بالمعتدى عليه، فتُجحف وتمعن في الإجحاف وتنحاز وتبلغ الشأو الأقصى في الانحياز، ولكن تحت رداء التوازن والموضوعية، فتطالب تلك القوى بـ«تنازلات متبادلة»، وذلك طبعا من صميم الندّية الشكلية المشار إليها ومن تجلياتها، وتغفل عن الحيثيات الواقعية لتلك المقايضة، تذهل أو تتصنّع الذهول، عن أنها تضع على قدم «المساواة» من لم يبق له ما يتنازل عليه غير وجوده، وبين من يُطلب منه التنازل، وهو يمتنع عنه ويُحجم، على بعض ما ناله اغتصابا، أراضي احتلها، سيطرته عليها لذلك غير مشروعة، بشهادة العالم وأعرافه وقوانينه وقرارات هيئاته الناظمة. أو أن تلك القوى النافذة، قد تحض على وقف العنف بين الجانبين، إن جدّ صدام واستفحل، وذلك أيضا من مظاهر الحياد، أي المساواة بين الطرفين، هذا إن توازنت تلك القوى وعدلت، فلم تصمْ أحد الطرفين بالإرهاب، ولم تدّع هاجس «الدفاع عن النفس» ونبله لدى الثاني، فإذا هي، إذ تفعل ذلك، تُمفهم العنف (أي تجعله مجرد مفهوم) وتجرّده، فتغض الطرف عن تجلياته واقعا وتساوي بين حصار يُفرض على شعب بأسره، يحرمه المقوّمات الدنيا للحياة، من غذاء وماء وكهرباء ودواء، أو بين اجتياح كذلك الذي منيت به غزة قبل أسابيع، دمارا فتك بالمدنيين، وبين صاروخ بدائي الصنع، يُطلق بين الفينة والأخرى، قد يكون فعلا أخرق وأهوج، ولكنه يُحدث من الضجيج أكثر مما يوقع من ضحايا، ويظل، في كل الحالات، من حيث مفاعيله التدميرية، من دون عتاد الخصم العدوّ بنِسبٍ فلكية.
لكل ذلك، أضحت تلك الندّية المكتسبة، أداة إجحاف ووسيلة تنصل من المسؤولية، بحيث ربما أضحى على الفلسطينيين، كما قلنا في بداية هذه العجالة، أن يطالبوا بحقهم في «اللامساواة» بينهم وبين إسرائيل، أقله ما لم تقم لهم دولة، بحقهم في أن يعاملوا كشعب في خطر، لا كمجرد خصم في مواجهة خصم، في صراع قوة مثلا، طالما أن الأمر لا يتعلق، والآن أكثر من أي وقت مضى، بكفّ غلبةٍ بل بصون وجود... إذ لا تقوم ندّية بين وجود ولا وجود.
* كاتب تونسي