هناك مدن عصيّة على القتل، والدماء التي تسيل عليها تزهر مقاومة ورجالا أكثر صلابة من الذين سقطوا دفاعا عنها. سيكتب التاريخ لغزة هاشم أنها أكثر هذه المدن صلابة، لم تمنح الجغرافيا لغزة طبوغرافيا خاصة أو جيوبوليتيكا تساعدها على تحمل الهجوم الشرس للقوة العسكرية الحديثة التي يعتمدها جيش ينفق على تطويره أكثر مما ينفق على أي بناء مدني آخر.

Ad

هي أرض منبسطة مفتوحة حدودها ومنفذها يتحكم بهما محاصروها، أرض ليست وعرة ومساحتها أقل من أن تكون دولة قائمة بذاتها أو حتى مدينة كبيرة، ويستطيع عدوها حصارها وتجويعها من دون أن يقاتلها، لكنها تبدي احتمالا وصمودا يزعجان محاصريها ويربكان أعداءها.

الذين يدرسون الجغرافيا ويتفحصون خريطة غزة وموقعها بعيدة عن ضفة تناصبها العداء ومطلة على باب وحيد من جهة بلد لا يتفق مع الفريق القائم عليها الآن، تحدها اسرائيل واسرائيل فقط من البحر والبر، يدركون أن مدينة كهذه يجب ألّا تصمد في أحسن الأحوال أكثر من يوم وحيد ومن دون الحاجة الى قصف جوي وبحري.

أما الذين يدرسون التاريخ فيدركون أن مدينة عاشت كل هذا الإرث النضالي منذ العهد الفرعوني حتى اقامة العرب فيها ودخولها الاسلام ونضالها ضد الصليبيبن وبسالتها في التصدي للجيش البريطاني بلواء واحد، حتى أرجعته لائذا بالعريش في الحرب الأولى، هي مدينة لن تهزم، ليس لأن عقيدة «حماس» القتالية قد خلقت منها مدينة حديثة في الصراع من أجل البقاء، لكن لأن «حماس» استفادت من عقيدتها التاريخية في الصمود.

فقبل «حماس» كان الاسرائيليون يعتبرون غزة وجعا في الخاصرة وصداعا في الفك الايسر ولا سبيل لبقائهم فيها.

الذي ينظر الى صورة الرجال وهم يدفنون أطفالهم ويقبلونهم القبلة الأخيرة، من دون أن تسمع لهم ولولة وعويلا يدرك أنهم نتاج مدينة استثنائية وتاريخ استثنائي، مدينة جربت القتال والموت والصبر واستوعبت الجوع والعوز ورفضت الذل والاستسلام، مدينة يشيد بها أعداؤها ويتمنون لو أن حركة «حماس» كانت في موقع آخر غير غزة هاشم.

الحديث عن صبر اسرائيل ثماني سنوات على غزة حديث زائف، لقد حاولت اسرائيل أكثر من مرة أن تقتحم غزة، وكانت تدرك أن الثمن الذي ستدفعه أكثر مما اعتادت أن تحتمل.

الحروب الخاطفة يمكن أن تكسر الجيوش النظامية، لكنها لا تكسر المدن العصيّة.

المدن العصيّة يتجدد تاريخها النضالي عبر فترات تاريخية متفرقة وهو تاريخ مصحوب بالدم والدموع، والدم الذي يروي غزة اليوم هو دم أبنائها وربما لم تفقد حماس جزءا بسيطا من كوادرها، مقارنة بأهل غزة الذين وجدوا أنفسهم محاصرين تحت لهيب القذائف، فتذكروا تاريخهم الطويل وحكايات أجدادهم مع الموت.

ستُهدم مبانٍ وتُسوّى بالأرض مؤسسات، ستُزال عن الأرض مدارس ومساجد، سيموت أطفال ونساء وشيوخ، سيتغير شكل المدينة وحاضرتها وسيلفّها الظلام والجوع والعطش، لكنها ستبقى مدينة عصيّة لن تموت سواء قادتها «حماس» أو «فتح»، أو قادها لا أحد.

يقول أحد كبار الضباط الاسرائيليين ان غزة اليوم دُمّرت وتحتاج الى مئة سنة كي تعود كما كانت. ولا ألومه في ذلك لأنه ينظر كثيرا الى الخريطة الجغرافية ولا يقرأ التاريخ.