في الإسكندرية ولد وعاش ومات الشاعر الشهير «قسطنطين كفافي»، وفيها كتب روائعه الشعرية التي مازالت حية ومتوهجة حتى الآن، ومنها « في انتظار البرابرة»، و«المدينة» و«إيثاك» التي منحته شهرته وجعلته واحدا من أهم الشعراء في القرن الماضي.

Ad

لكن كفافي الذي عاش كل حياته في الإسكندرية وارتبط بها وكتب عنها واحدة من أجمل قصائده، ظل شاعرا يونانيا، لأن بيته الحقيقي الذي عاش فيه وفكر وأبدع كان اللغة اليونانية. ولم يكن ذلك المنزل القديم الذي تحول إلى متحف يضم بعض مخلفاته في المدينة المصرية.

من ناحية أخرى، هناك كتّاب ولدوا وترعرعوا هنا أو هناك، ثم هاجروا إلى بلاد أخرى ولغات جديدة ليصبحوا من أهم المبدعين في هذه اللغات.

اللغة إذن هي البيت الحقيقي للإنسان، ومحور هويته وأصل انتمائه، كما أقول في قصيدة لي:

«بيتي لغتي أهدمه لكي أبنيه

وأخرج منه لكي أرتد إليه

وأهتف جسدي صار كلاما»

والتاريخ العربي يضع أمامنا عددا كبيرا من الشعراء الذين عرَّبتهم اللغة ومنحتهم مكانهم ومكانتهم في تراثنا الشعري، ومنهم بشار بن برد، مهيار وابن الرومي، بالإضافة إلى العديد من الكتّاب في شتى المجالات.

وجرى ذلك التعريب في مراحل الانتصارات والصعود، خصوصا في العصرين الأموي والعباسي، وأظننا لم ننسَ قول ابن خلدون «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات هي صورة لمنزلة دولتها بين الأمم»... وهذه العبارة تفسر لنا اهتزاز مكانة اللغة العربية وانحسارها في العصرين المملوكي والعثماني وفي زماننا، كما تفسر سطوة اللغة الإنكليزية وانتشارها عالميا وتجددها الدائم، باعتبارها أهم لغات الغرب المسيطر والغالب ولغة التقدم وعصر الاتصالات والحداثة وما بعدها.

وانعكس تخلفنا وتردي واقعنا على لغتنا. فلم نسعَ إلى تجديدها وتبسيط قواعدها، ونسينا أن اللغة التي لا تُجدد هي لغة راكدة مرشحة للموت أو الانحسار، ولأن المغلوب يسعى عادة إلى تقليد الغالب واستعارة بعض عناصر قوته فقد اكتفى بعضنا باستعارة ملامح الآخر الغالب ولغته.

وما يحدث في بلادنا الآن هو حرب غير معلنة على اللغة العربية وعلى ثقافتنا وتراثنا وإبداعنا، وهذه الحرب تدور في المدارس والجامعات والشوارع تحت بصر وسمع وزارات التعليم والإعلام والثقافة ومباركتها أيضاً، فأعداد المدارس الأجنبية والخاصة تتضاعف، وهي المدارس التي تتولى مهمة تعليم اللغة الأجنبية من مرحلة الحضانة، في حين يتراجع الاهتمام فيها بلغتنا.

فإذا أضفنا إلى هذه المدارس، الجامعات الخاصة وجامعات الدولة التي أعلنت الحرب على اللغة العربية في الأعوام الأخيرة، وأنشأت أقساما للتعليم الجيد والمتميز تدرس فيها المناهج والمواد نفسها باللغة الأجنبية للطلاب القادرين على دفع آلاف عدة من الجنيهات، لعرفنا ضراوة هذه الحرب التي باتت تحاصر اللغة في عقر دارها وبين أبنائها، وتجعل التعليم بها علامة على الفقر والتدني الاجتماعي، ومن ثم تغرس بذور الانشقاق الطائفي والطبقي وتُربي «غيلان» الحقد والكره والتطرف.

لدينا في مصر ما يقرب من عشرين مليون من التلاميذ والطلاب، يؤهل التعليم في المدارس والجامعات الحكومية أغلبهم للانضمام في المستقبل إلى صفوف العاطلين في الشوارع أو للهروب من البلاد بحثا عن فرص للعمل والحياة في الخارج، أو للغرق في البحر المتوسط!

ومَن يتابع أخبار هؤلاء الغرقى سيدرك أن معظمهم من أبناء القرى الفقراء، وفي المقابل سنجد أبناء مصر الأخرى الثرية والقادرة الذين تعلموا في المدارس والجامعات الخاصة يؤهلهم التعليم باللغة الأجنبية وسطوة أسرهم وثراؤهم لتولي الوظائف والمناصب وقيادة مجتمع لا يعرفون لغته وهمومه أو ثقافته.

ومن المدارس والجامعات امتدت الحرب إلى الشارع، فسادت الركاكة والفجاجة والاستهانة باللغة، وهيمنت على الأغاني والأفلام الشبابية ولغة المدونات والرسائل الإلكترونية وكتابات بعض المبدعين واللافتات والشعارات التي يرفعها السياسيون أحيانا، وقد أثار الشعار الذي يرفعه الحزب الوطني الحاكم «بلدنا بتتقدم بينا» عواصف من السخرية قبل شهور.

لغتنا في مأزق وجودي، ولن يفيدها كثيرا موافقة مجلس الشعب في دورته الأخيرة على تعديل قانون مجمع اللغة العربية، لجعل قراراته ملزمة للجهات الرسمية، فقد اعتدنا سنّ القوانين وتعديلها ثم خرقها أو نسيان العمل بها، وأظننا بحاجة إلى تغيير واقعنا، وتجديد لغتنا، وإيقاظ هويتنا، والكف عن كره أنفسنا.

* كاتب وشاعر مصري