هدأت الأحوال ورجع المقاتلون إلى مواقعهم، لملموا أسلحتهم وغضبهم إلى حين، تركوا وراءهم آثار حربهم ومضوا. دماء وحيوات مهدورة، وخراب مادي هنا وهناك، مقاطع فيديو وصور «تذكارية» تشهد على لحظات الجنون وانفلات العنف. الآن هذا انتهى، مؤقتا ربما، لكنه انتهى.
هدوء الميدان لا يعني بالضرورة هدوءا مماثلا في النفوس، فالقتل يترك أشباح القاتل والمقتول وراءه، والأشباح تعكر صفو الناس وتؤلب عليهم جراحهم، ولملمة الجراح لا تعني بالضرورة انغلاقها، وطول انفتاح الجرح ينذر باستدامة أسباب واستيلاد مسبباته حتى النهاية. تلك بيروت وذلك حال أهلها، وهو ما يغيب عن بال «الجمهور» بمجرد توقف الفضائيات عن نقل صور النار والدمار وجنازات القتلى. يخالون رائحة الدخان تبخرت، وبقع الدم أنبتت شقائق النعمان لـ«شهيد»، أو عار أبدي لـ«عميل». الملايين كانوا يتابعون مسلسل الموت القصير، كما يشاهدون مباراة كرة قدم، يهللون لفريقهم، ويصلّون لهزيمة الآخر، ويراكمون نصرا إضافيا، إلى سجل انتصاراتهم المزعومة، أو الحقيقية، ما الفرق؟!.تؤلمهم بطاقة موت حمراء رفعت في وجه لاعب من فريقهم فخرج من الحياة، خروج لاعبين آخرين من الفريق المعادي لا يثير كثير امتعاض أو قلق، فقد استمرأ الكثيرون قانون القوة العمياء، فوضى عارمة ألمت بجميع المصطلحات التي نهشت طويلا في وعينا وذاكرتنا لأكثر من نصف قرن من مناهضة الإمبريالية وقتال إسرائيل الفعلي أو المجازي، خلطت الأوراق في أذهان كثيرين. ضاعت الحدود بين حرب تحرير وحرب أهلية، ومن وقف ضد منطق القوة فقد فعل لأنه يحابي الفريق الآخر، وليس بدافع رفضه للمنطق بحد ذاته، وبسرعة جرى نسيان ما جرى قبل حين في غزة بين الإخوة الأعداء، بؤر نزاعات أهلية أخرى في غير مكان من منطقتنا، لم تقترب حتى من الذاكرة. بدا الشارع بعيدا عن أصداء النار والبندقية، مخيفا هو أيضا، مخيفا كيف انتصرت الأغلبية الصامتة، الشاكية أبدا قهرا واستلابا، كيف انتصرت بابتسامة أو عبارة تشجيع، لمنطق السلاح وكيف هللت له. الشارع العربي لم يجرح شعوره أو تمس كرامته- كما يعتريه حينا وأحيانا في مناسبات مختلفة- وينتفض فزعا من قتال الإخوة، فبدا متفاعلا مع المعركة منتظرا نتائجها على أحر من الجمر. أي معركة هي شريفة، وأي موت هو شهادة، وكله في سبيل القضية، أما رفض العنف والرد عليه بمثله، فهو مما لا يفكر فيه، حتى لو كان سبيلا أوحد لحفظ الدماء ومحاصرة الأحقاد وكسر دائرة القتل والقتل المضاد. وأما دعاة المقاومة السلمية وبناء الذات الحرة وحملة رسالة المحبة، فهم أقلية معزولة، تكاد لا تسمع صوت نفسها. في الشارع، سمعتُها كثيرا من بسطاء الناس خلال أيام الاقتتال الدامي الأخيرة في لبنان، قالوا بفرح بريء، «كسّروا راسهم»، وهو تعبير بالعامية، للدلالة على الفعل «البطل» الذي أوقعه الفريق الذي يؤيدونه بحق الفريق الآخر المعادي! الإعلام ينفث أحقادا في جميع الاتجاهات، بأن لا بد من إفناء المارقين، فهم لا يستحقون الحياة، يبذر بذور العنف في الأرض كلها، وعلى الأرض السلام. ثقافة «تكسير الراس» وتحطيم العظام هذه، هي شبه السائدة على نطاق واسع. الدول الكبرى تمارس التكسير بحق الصغرى، والحكام بحق رعيتهم، ثم الناس فيما بينهم، ومن شابه مستعمره وحاكمه فما ظلم. يجب تحطيم الامبريالية والعدو الإسرائيلي والكفار الفاسقين والمعارضين المنشقين وأصحاب الكلمة الحرة وأولئك المختلفين معهم في الرأي والرؤيا والعملاء والخارجين عن السرب وغيرهم كثير. الجمهور القابع تحت عصا ثخينة لا يتعب من حمل عصا مشابهة. وما عاد يؤرقه دم أو تزلزله دموع أم. يمشي وهو يدندن ما حفظ من أغاني الثورة والكرامة المستعادة حتما وأناشيدها، يوما ما. تنتفخ أوداجه انفعالا ويمتلئ صدره نشوة. مادامت البندقية على الكتف، والنعش على الكتف الآخر، فلا خوف من المستقبل الغامض.يستذكر مع مارسيل خليفة أغاني الشهادة والتضحية، لأجل ماذا ومن أجل ماذا لا يهم. «مرفوع الهامة أمشي». ينسى غصن الزيتون في الكف، الشطر الثاني من الأغنية. «وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي، وأنا أمشي». لم يسأل إلى أين المسير، ولا نظر إلى نهاية الدرب ليعرف ما ينتظره.* كاتبة سورية
مقالات
حملة النعوش
22-05-2008