كما توقع الكثيرون، فإن الرئيس الأميركي أوباما أعاد أزمة الشرق الأوسط إلى نقطة الصفر، أو إلى المربع الأول كما يحلو للبعض أن يسميه، فجولة «مندوبه السامي» السيناتور جورج ميتشل ساهمت، دون أن يدري أو لا يدري، في الوصول إلى هذه النتيجة. وبالرغم من اتباع ميتشل فضيلة الصمت في كثير من مقابلاته، أو مبدأ خير الكلام ما قلّ ودلّ في مناسبات نادرة، فإن التصريحات البخيلة التي أدلى بها خلال تنقلاته في العواصم التي زارها تثبت أنه جندي أُرسِل إلى ساحة المعركة دون أن تزوده قيادته بالسلاح المطلوب حتى لو كان سلاحاً دفاعياً.

Ad

قال إنه جاء ليستمع أكثر من أن يتكلم، غير أنه في الجلسات المغلقة مع قادة وزعماء العواصم التي زارها لم يخرج عن «الكليشيهات» التي سبق أن أتحفتنا بها واشنطن منذ التسعينيات إلى الآن، أي منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام. وما لم يقله علانية قالته رئيسته هيلاري كلنتون: السعي الجدي الدؤوب لقيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة» إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

ماذا تعني عبارة قابلة للحياة بينما تتلاشى أرباع الضفة الغربية، ويجري استعمارها وهي في الطريق إلى تهويد الربع الأخير بشكل أو بآخر؟ أين هي الأرض التي يستطيع الفلسطينيون إقامة دولتهم عليها؟ بل أين تقف حدود هذه الدولة الموعودة: في غزة المنكوبة؟ أم في رام الله؟ أم في الأردن؟ أم في مصر؟ هذه الأسئلة بقيت في إطار الطلاسم التي تحتاج إلى أكثر من منجم مغربي أو فقير هندي، أو متصوف عجمي لكشف أسرارها.

ثم ماذا يعني أن حل أزمة الصراع مع إسرائيل لن يحبو إلا بعد إتمام المصالحة بين الفلسطينيين. أن المستر ميتشل وأيضاً مسز كلنتون يدركان أكثر من غيرهما أن المصالحة الفلسطينية في هذا الوقت يوازي بصعوبته قيام دولة قابلة للحياة. ثم من يؤجج نيران الصراع بين الفلسطينيين؟ أليست واشنطن هي التي تفعل ذلك، حماية لإسرائيل ومصالحها كي تعطي لنفسها الحجج والمبررات للهروب من وعود إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة؟!

باختصار فإن جولة ميتشل الاستطلاعية هذه، والتي ستتحول إلى سلسلة زيارات مكوكية تذكرنا بتلك الزيارات التي قام بها هنري كيسنجر في العام 1973 مع فارق واحد هو أن كيسنجر استطاع أن يصطاد ما سماه في حينه «السمكة الكبيرة» في العالم العربي، أي مصر أنور السادات، فهل يأمل ميتشل في أن يصطاد أسماك القرش الموجودة بكثرة في بحر غزة!

بمعنى أكثر وضوحاً، فإن الخطة الأميركية القديمة-الحديثة مازالت مستمرة في الضحك على ذقون العرب، مع تغيير طفيف في السيناريو القديم بشكل يتلاءم مع التطورات الجديدة. وإذا كان كيسنجر نجح في اصطياد سمكة العرب الكبيرة، فإن ميتشل يهدف إلى اصطياد كل الأسماك العربية، وهو في جولته الأولى قد نشر شباكه على طول الساحل العربي الشرق أوسطي، ثم نصب أفخاخ الصيد في صحرائنا القاحلة إلا من النفط. فإذا نجح في ذلك، فإنه يستأهل حمل لقب «الصياد الأعظم»، وبذلك يضرب أسطورة كيسنجر على... وجهها.

إن السياسة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط قد تغيرت بالفعل، ففي العهود الأميركية السابقة كانت هذه السياسة ذات وجه واحد بشع، أما في عهد أوباما فصارت ذات وجهين، وما نراه اليوم هو الوجه البشوش المليء بالأمل المخادع لإخفاء الوجه الآخر إلى أن يحين الحين. إن سياسة الإدارات الأميركية السابقة رفعت شعار: إسرائيل فوق الجميع. اقبلوها يا عرب وإلا فاشربوا مياه المتوسط والخليج معاً. وتباشير السياسة الأوبامية الجديدة تدل على السير في المنهج نفسه، أن من يشك بصحة هذا الكلام ادعوه، على نفقتي الخاصة، إلى شرب مياه المحيط الأطلسي.كل ذلك يجري والمياه تسيل كالأنهار من تحت أقدام العرب دون حسّ أو حسيس. فهم مشغولون بأمور أكثر «أهمية» من هذه «التفاهات»... مشغولون بحرب النكايات والكيد لبعضهم بعضا، تذكرنا بمأساتنا الملحمية الأولى «حرب داحس والغبراء» التي يقول التاريخ العربي القديم إنها استمرت أكثر من مئة عام من أجل... سباق خيل.

السيناتور ميتشيل واجه جواً مليئاً بالسواد خلال زيارته الأولى... الصراع بين إسرائيل و«حماس» في تصاعد ولم يتم التفاهم على وقف إطلاق النار ولا على هدنة قصيرة المدى أو طويلة. حلفاء واشنطن المعتدلون من الفلسطينيين، وأيضاً دول عربية تشاركهم فلسفة الاعتدال، أظهروا غضباً شديداً للخسائر البشرية في غزة عبروا عنها بكلمات طنانة وحزينة دون القيام بأي ردّ فعل. في الوقت نفسه فإن إسرائيل، التي تجاهلت باختصار، ردّ الفعل العربي، تابعت مسيرتها الانتخابية. وهي تتجه نحو تسليم اليمين المتشدد بزعامة نتنياهو الذي يحبذ تأجيل مفاوضات السلام إلى الأبد، مما دفع أوباما إلى الاعتراف بواقع ما يجري على الأرض وبالتالي صعوبة قيام دولة فلسطينية في القريب المنظور، وكذلك صعوبة طرح موضوع قيام هذه الدولة على طاولة البحث، مع الوعد بأن هدفه هو قيام دولتين تعيشان بسلام ووئام في فلسطين المحتلة، وأن الجهد الأميركي، كل الجهد، سيُمارس لتحقيق هذه الغاية النبيلة. لكن أوباما تغافل عن ذكر تفاصيل خطة قيام الدولة؛ أين وكيف؟!

تعليمات طارت من واشنطن إلى مكان وجود أوباما في الشرق الأوسط تحمل تعديلاً في الخطة التي سبق الاتفاق عليها قبل مغادرته عاصمة بلاده: اترك موضوع بحث إقامة الدولتين الآن، وركّز على أمرين اثنين: إقامة جسور الثقة وتشجيع تنفيذ برنامج إنمائي سريع في الضفة الغربية. (واشنطن بوست في 31 ديسمبر). وهذا يعني العودة إلى استراتيجية برلين الشرقية وبرلين الغربية إبان الحرب الباردة في الستينيات بحيث يظهر الفارق الإنمائي والمستوى المعيشي بين «البرلينين». فالأولى (الغربية) تعيش في بحبوحة ورخاء وأمن مضمون من قبل الحلفاء، بينما الثانية (الشرقية) تعاني شظف العيش والقلة بالإضافة إلى دكتاتورية الحزب الشيوعي الحاكم وبطشه بالديمقراطية والديمقراطيين والناس أجمعين. والهدف تشجيع سكان غزة على الثورة ضد «حماس» ودفعهم إلى هدم الجدار الذي أقامته المقاومة الوطنية. تماماً كما حدث في برلين في أعقاب انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفييتي.

إن جورج ميتشل لم يحمل معه في زيارته الأولى إلى المنطقة لا عصا سحرية ولا كلمة سحرية، بل مشروعاً للقضاء على «حماس» التي فشّلت إسرائيل في تحقيقه. لسنا بحاجة إلى كثير من الذكاء ولا الاستعانة بالنجوم لقراءة الغيب حتى نصل إلى الحقيقة أو بعضها على الأقل. فالمعطيات متوافرة وهي تشير إلى أن الإدارة الأميركية ليست مستعجلة في حلّ قضايا منطقتنا.

إن إسرائيل تعيش هذه الأيام حالة مثالية على الصعيد السياسي، فالمجتمع الدولي سارع إلى إعطائها شهادة البراءة من دماء هؤلاء الصدّيقين الذين طحنتهم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة. وبالرغم من ذلك فإن إسرائيل تخشى ما لا تعرفه، وتخشى أيضاً وقوع أحداث ليست في حسبانها، تقلب الطاولة على رأسها. وأكثر ما تخافه تل أبيب فقدان الولايات المتحدة لمصداقيتها بين الشعوب العربية وليس الحكام، وزوال مقولة: «لا تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بإذن الجالس سعيداً في البيت الأبيض».

إن إسرائيل معروفة بالبخل الشديد المتوارث أباً عن جدّ حتى أصبحت مضرب الأمثال في التاريخ القديم والحديث. رواية شكسبير الشهيرة «تاجر البندقية» تعطي صورة واضحة عن البخل اليهودي. واحدة من هذه الصور: يحكى أن الابن الوحيد ليهودي ثري جاء إلى أبيه يوماً يطلب زيادة في ميزانية إنفاقه الشهري. وبعد ساعتين من الجدال بين الأب وابنه الوحيد وافق الأب على المبدأ وسأل الابن: كم تريد؟ قال: عشرة دولارات. كاد الأب أن يصاب بنوبة قلبية لضخامة المطلب. ثم قال لابنه الوحيد والدمعة في عينه: عشرة دولارات؟ هذا كثير. ما رأيك بخمسة... خذ هذا الدولار فإنه يكفي. أسوق هذه القصة إلى الذين مازالوا يراهنون على «كرَم» اليهود، ويحلمون بأن إسرائيل ستتخلى عن أرض فلسطينية محتلة كرَما ً منها.

* كاتب لبناني