أوراق منسية من تاريخ الجزيرة العربية غيرترود بيل (تقارير الاستخبارات البريطانية عن أوضاع الجزيرة العربية في الفترة 1916- 1917) - المعارك القبلية في صحراء العرب أكثر نبلاً وأقل دموية من البرابرة الأوروبيين الحلقة السابعة

نشر في 28-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 28-12-2008 | 00:00
ملخص الحلقة السابقة

• بقوة مؤلفة من ثمانين رجلاً يمتطون جِمالا زودهم بها شيخ الكويت... انقض عبدالعزيز على حامية ابن رشيد وقتل ممثله.

• الرحالة البريطاني خليل داوتي كان متعاليا ومتعصبا وحل ضيفا ثقيلا على ابن رشيد الذي أُرغم على حمايته.

• الكويت تحتضن اجتماع ثلاثة من شيوخ العرب الأقوياء هم: شيخ المحمرة خزعل وشيخ الكويت وابن سعود حاكم نجد.

• ابن سعود في اجتماع الكويت: العثمانيون يعملون على تفكيك العرب وإضعافهم... وبريطانيا تستهدف توحيدهم وتقويتهم.

• مغامرة عبدالعزيز الجريئة وتسلقه وثمانية من رفاقه المنتقين أسوار قصر ابن رشيد في الرياض وسيطرته عليها... مازالت محفورة في ذاكرة البدو

• الشيخ خزعل شيخ المحمرة يقول للبريطانيين: «لقد كان أمرا طيباً لنا أن نرى مدى قوتكم».

• الكابتن شكسبير أصر على ملازمة ابن سعود في معركته الكبرى مع ابن رشيد ونصب آلة التصوير ليلتقط صورا للمعركة... إلا أنه هوجم في موقعه وقتل.

• زيارة ابن سعود للبصرة تعد حلقة مهمة في تاريخ الجزيرة العربية شاهد فيها القوات البريطانية وأبدى اندهاشه بالأسلحة والمعدات... لكنه اندهاش مَن يرغب في التعلم.

• أفكار الشيخين ابن سعود وخزعل كانت توحي بقوة أعظم وأكثر استقرارا من قوة آلة الحرب... وبتطلعٍ إلى يوم يبسط فيه البريطانيون علوم السلام بدلاً من علوم الدمار.

إنني إذ أقدم على تعريب هذه التقارير إلى اللغة العربية، فإن ذلك لا يعني أنني متفق مع ما جاءت به الكاتبة من آراء واستنتاجات، ولكنني أقدمت على تعريب هذه التقارير لأن الكاتبة قدمت معلومات توثيقية عن أحداث مهمة مر عليها ما يقرب من تسعة عقود وقد اطلعت فئة قليلة على هذه المعلومات... لذا وددت تعميم الفائدة لكسر حاجز اللغة آملا بهذا العمل أن أكون قد أضفت جديداً إلى المكتبة العربية.

المترجم

سوء الطالع الأوروبي

إن الطبيعة الإنسانية واحدة، وهي الطبيعة نفسها لدى العرب كما هي لدى الأوروبيين: تتسم بالمشاكسة والطمع والطموح، وفي بعض الأحيان تتصف بالإخلاص، ولكنها بشكل رئيسي تميل إلى الغدر. وفي أحيان أخرى تتسم بالاستنارة، ولكنها دائماً قلقة مولعة بالقتال. والمعارك القبلية في صحراء الشامية (الواقعة جنوب العراق حتى شمال نجد) قد يتوقع منها أن تظهر نفس الكر والفر والتغير والتبدل للتحالفات، كما ساد تاريخ العلاقات بين الدول المختلفة التي تشكل أوروبا.

(ويعرِّف المؤرخون القدامى صحراء الشامية باسم «صحراء السماوة»، ويطلق عليها علّامة الجزيرة العربية حمد الجاسر اسم «صحراء الحجرة»، ويقول عنها: إنها أرض ذات آكام وأودية ومناهل متعددة، تقع شمال وادي الباطن والدهناء ممتدة من الجنوب من الهذاليل إلى وادي الخر شمالاً، وفيها منهل الشعبة، ومنهل الدويد، كما يخترقها طريق زبيدة طريق الحج المشهور). (المترجم).

والسمة المختلفة للصورة في مجال المقارنة هي قلة إراقة الدماء (حسبما تشير «نشرة العرب» السرية على لسان غيرترود بيل، وتقارير أخرى).

جرت العادة أن تقوم المعركة العربية على مباغته العدو على حين غِرة من خلال شن غارة، وحصيلة الإصابات في بعض الأحيان، قد تزيد أو تقل عن عدد الإصابات في مباراة لكرة القدم، وكقاعدة لا يتم أخذ أسرى. وليس المقصود من عبارة «عدم أخذ أسرى» -التي تبدو سيئة الطالع بالنسبة لنا نحن الأوروبيين الأكثر بربرية- بأن الأسرى يقتلون، فالرجل الذي يستسلم يتخلى عن بندقيته وحصانه وحتى ملابسه في ما عدا الحد الأدنى الذي يستر عورته، وبعد ذلك يترك ليمضي إلى حال سبيله، وفي بعض الأحيان يستمر القتال من دون هوادة وبلا رحمة وحسب الأعداد المشاركة فيه تكون إراقة الدماء.

«ووترلو» البدو

إن تاريخ هذه المعارك له أهميته الجوهرية وذلك بغض النظر عن أي درس قد يحمله بشأن احتمال ترابط القبائل معاً تحت تأثير قوة خارجية. وبالنسبة الى المهتمين بذلك فإن القصة لها معالم عظيمة بالنسبة للبدو كما هي أهمية معركتي هاستنجز Hastings ووترلو Waterloo بالنسبة إلينا. فمعركتا «هاستنجز» أو «ووترلو» بالنسبة الى ابن رشيد وابن سويط لا تعدان شيئا بالمقارنة إلى معركة «البردية» أو معركة «نبعة».

سنبدأ من الوقت الذي دحر فيه سعدون باشا زعيم قبيلة المنتفق من شمال الفرات إلى صحراء الشامية التي أصبحت منطقة نفوذه الخاصة «ديرته». إن عائلة السعدون التي تقود قبيلة المنتفق الكبيرة لا تعود أصولها إلى العراق بل من أشراف مكة، وقد أقام سعدون باشا لنفسه سلسلة من الحصون والآبار تمتد من الغباشية عبر كابده وشقراء حتى أبو غار ونبعة، وهي حلقة تتحدى أي محاولة للأتراك الأغراب أن يعرضوا روحه لذل الخضوع، وسعدون الكبير تقدم بجيشه وأسلحته ذات مرة حتى أسوار البصرة نفسها. وعندما قامت القوات التركية المنظمة في النهاية بدحر قواته إلى داخل الصحراء قام سعدون باشا برفع رايته هناك ونصب نفسه بالفعل كملك للشامية. لكن كان يوجد هناك أيضا عدو آخر غير الأتراك، فهذه الحصون الصحراوية كانت تشكل خطاً للدفاع ضد الغارات الحتمية التي قام بها العرب الأعداء، وقاعدة للغارات التي كان يشنها مستأجروها بأنفسهم.

راية الصحراء

البدوي ليس لديه أي عمل أو لهو، وعمله الوحيد ولهوه الوحيد هو شن الغزوات أو الغارات. وعلى الرغم من أن الغزوة قد تبدو لنا باعتبارها مجرد سطو، فإنها بالنسبة الى البدو تمثل غليان الأرواح الشرعي، والغزوات لها قواعد أشد إلزاما لديهم من قواعد القانون الدولي بالنسبة إلينا.

وعود للحديث عن سعدون، فإن الشخص الوحيد الذي يمكن اعتباره ملكاً للصحراء اكثر من الآخرين هو ابن رشيد الأمير الشمري، وكان عدوه التقليدي ابن سعود أمير نجد -وفي ذلك الوقت كان ابن سعود في أدني مستوى من القوة-. ولم يكن هناك من ينافس ابن رشيد، ولذلك عندما بسط سعدون باشا رايته على الشامية قال ابن رشيد «هذا لا يمكن أن يكون... لا يمكن أن توجد رايتان مرفوعتان في الصحراء»، ويصعب القول ما إذا كانت تصرفاته أو تصرفات سعدون كانت تتم بتشجيع سري من جانب الأتراك.

طرد الظفير

وعلى أي حال فمنذ ستة عشر عاما مضت (أي في عام 1901) وصلت الشائعات إلى حدود الخميسية بأن ابن رشيد كان يجهز لشن غارة على سعدون، ولذلك جمع سعدون قواته وجهز نفسه استعداداً لرد الهجوم، وبالإضافة إلى قبائل المنتفق انضمت إليه قبيلة الظفير.

والظفير قبيلة بدوية انحدرت بشكل جزئي من الحجر في شمال الحجاز وقد طردت من هناك منذ مدة طويلة واستقرت في منطقة بين الكويت وإمارة شمر والفرات، وقد كانت هذه القبيلة في عهدها قوية ذات سطوة في الشامية. وفي عهد الشيخ سلطان بن سويط جد الشيخ الحالي (حمود) وفي عهد أخيه جعيلان، اتحدت أفخاذها المتفرقة بسهولة بتأثير شخصي من الشيخ، ومن دون ذلك النفوذ الشخصي فان إغراءات التفكك كانت واضحة من وضع القبيلة إذ إنها كانت تتمركز عادة بين شمر والمنتفق، ولذلك كانت تحتاج إلى أن يكون نفوذها لدى كلا الجانبين.

«البردية» والغبار الغامض

في تلك المناسبة وقف عدد من الظفير مع سعدون، وكثير منهم لم يرغب بالتدخل في الأمر على الإطلاق، ووقفت قبائل المنتفق وقبيلة الظفير معا على أهبة الاستعداد لكل الطوارئ، ولكن لم تشن أي غارة. واعتقد رجال القبائل أنهم قد تجمعوا بناءً على إنذار كاذب، وتفرقت القبائل إلى حد كبير، وظل سعدون بنفسه معسكراً شرق الخميسية بالقرب من البردية، وكانت هذه هي فرصة ابن رشيد السانحة. وذات يوم لاحظ أتباع سعدون عمود غبار غامض في الأفق الجنوبي، فأرسلوا الكشافة الاستطلاعية الخاصة بهم فعادوا يؤكدون بأن القادمين هم شمر. حينذاك سبق السيف العذل، ولم يتمكن أتباع سعدون من الفرار، أما هو نفسه فقد هرب تجاه الصخرية.

وهزمت شمر الباقين بسهولة واستولت على غنائم كبيرة من الخيل والإبل، وعرفت هذه المعركة المشهورة بـ«البردية»، وعسكر ابن رشيد لفترة عند تل الجبارة وبعد ذلك عاد إلى موطنه.

غضبة الشيخ مبارك

رغب سعدون باشا في الانتقام لهزيمته فاستغل وجود خلاف بين مبارك الصباح شيخ الكويت وابن رشيد لكي يتحالف مع الاول. وكان أحد تجار الكويت المشهورين، وهو يوسف الإبراهيم قد انشق عن مبارك بعد قتله أخويه (محمد وجراح) فذهب الإبراهيم إلى ابن رشيد، فغضب الشيخ مبارك لهذا الانشقاق فاستغل جزءا من ثروته لتسليح ابن سعود، نكاية بابن رشيد، وقبل بكل ترحاب دعوة سعدون لكي يشارك بقواته في قتال العدو المشترك، إلا أن جعيلان بن سويط شيخ الظفير رفض المشاركة في التحالف.

ودارت معركة في نجد اشتركت فيها قوات الثلاثة وهم: سعدون وابن صباح وابن سعود، ولكن ابن رشيد كان أقوى منهم وهزم التحالف بسهولة في معركة عرفت باسم «الطرفية» (الصريف)... نسبة إلى اسم المكان الذي حدثت فيه، وحدث ذلك بعد عام واحد من معركة البردية.

بنو حچيم

وبعد ذلك خيّمت فترة هدوء في الأحداث المهمة؛ وعلى الرغم من استمرار الغارات، فإن المنطقة لم تشهد دورانا لرحى حرب ذات أهمية. ونشب لاحقا خلاف بين ابن صباح وسعدون. فقد قام فخذ السعيد من الظفير وهم أصدقاء لسعدون بالاستيلاء على عدد من ابل ابن صباح، وطلب ابن صباح من سعدون أن يتدبر أمر إعادة الإبل، وقد رفض الأخير ذلك، وأدى رفضه إلى أن يطلب ابن صباح مساعدة ابن سعود، ولم يكن ابن سعود قوياً، لأن قبيلتين من قبائله قد تخلتا عنه، وهما مطير والعجمان، ولذلك أرسل قوة هزيلة لمساعدة ابن صباح، وعلى هذا الحال وصلت قواتهم بالقرب من الرخيمية، حيث فوجئوا بجماعة مشتركة من قبائل: الظفير، والزياد، والمنتفق (بما فيها البدور) تحت زعامة سعدون.

بالنسبة الى قبيلة الزياد فهي ليست إحدى قبائل المنتفق، وتنتمي إلى تحالف يعرف باسم بني حكيم (حچيم)، وتقطن مناطق جنوب وحول السماوة، ولكن صداقة الزياد مع الظفير تعود إلى سنوات كثيرة مضت، وكان للزياد على الدوام دور فعال في معارك الشامية.

غارة الصباح والمطران

ولم تنشب معركة حقيقية في تلك المناسبة، ولقد تم أسر قوات ابن صباح وابن سعود من دون مقاومة تذكر؛ ولهذا فانه يطلق على هذا الحدث اسم «هدية»، وهذه الأحداث ممكنة وهي مفهومة لمن يعرف المسافة والسرعة التي يمكن للعرب أن يجتازوها عند نيتهم القيام بغارة، وقد حدثت وقعة هدية في الربيع قبل تسع سنوات... (أي في عام 1908).

وفي الصيف التالي ذهب سعدون إلى زيارة والي بغداد كاظم باشا، وقد سمعت قبيلة مطير -وهي قبيلة نجدية من أتباع ابن سعود- عن ذلك ورأت أنها فرصة طيبة لشن غارة، فجاء رجالها إلى ابن صباح وقالوا له «لقد ذهب سعدون إلى بغداد وتوجد فرصة عظيمة للإغارة على الظفير والمنتفق، دعنا نشن غارة عليهم»، وحيث إنه لم يكن ليرفض الانتقام من قبيلة الظفير بسبب هزيمتها الأخيرة له؛ قام ابن صباح وقبيلة مطير بشن غارة كبيرة على الظفير في شقراء ونجحوا في الاستيلاء على غنائم كثيرة، ووصلت أخبار الغارة إلى سعدون أثناء وجوده في بغداد وتم إبلاغها إلى الوالي.

تحالف الظفير وابن صباح

عرض الوالي على سعدون أن ينصبه أميرا على قبائل العراق والكويت إذا تمكن من الإطاحة بابن صباح، وطموح سعدون الدائم دفعه إلى الموافقة على المشروع، وشرع في تجميع قواته، وانضمت قبيلة الظفير وآخرون إليه. ووصلت قواته حتى الشقق، بين سفوان والجهراء، من ناحية الغرب. وعندما سمع ابن صباح باقترابهم، وقد كان على الدوام على اتصال بقبيلة الظفير لدرجة أنه كان يسمح لهم بأخذ «خاوة» (ضريبة) على البضائع الذاهبة من الكويت أو يدفع لهم مبلغاً معيناً في حالة تخليهم عن أخذ الخاوة. وأجرى ابن صباح اتصالات سرية بقادة هذه القبيلة، وكان الظفير قد قتلوا فرس يوسف المنصور أحد وجهاء السعدون مما جعل هناك مسوغاً للشقاق الذي نتج عنه أن تخلت قبيلة الظفير عن سعدون وأحبطت مشروعه. وتخلي سعدون عن مسعاه، ولكن على الرغم من أنه ظل ظاهرياً على ود مع قبيلة الظفير فلقد قرر الانتقام منها بسبب غدرها به وعدم مساندته بإطاحة ابن صباح.

رهائن ابن رشيد

كتب السعدون سراً إلى ابن رشيد يدعوه إلى التعاون لعقاب قبيلة الظفير، فإذا وافق على ذلك يجب أن يظهر مع أتباعه في الدهناء- وهي صحراء رملية في وسط أراضي شمر. وفي هذه الأثناء سيرحل سعدون بنفسه وأتباعه بالإضافة إلى قبيلة الظفير إلى الدهناء، ووافق ابن رشيد على هذه الخطة والتقت الأطراف في الدهناء. واستدعى ابن رشيد قادة قبيلة الظفير إليه وطلب منهم تفسيراً للتصرف الذي قاموا به. ويبدو أن ابن رشيد لم يقبل أعذارهم فأمر بمصادرة 500 بعير كغرامة. وبذلك تم الإيقاع بالظفير واضطروا إلى الإذعان لذلك. ولكن سعدون كان يعرف جيداً انه لن يترك ابن رشيد يغادر المكان دون أن يأخذ ضمانات إضافية ضد ردود الأفعال المستقبلية لتلك القبيلة، ولذلك تم الترتيب لأخذ خمسة من رؤساء الظفير كرهائن لدى ابن رشيد، وعلى هذا تفرقت الأطراف.

تحدث مشايخ شمر إلى الأمير ابن رشيد، سواء بإرادتهم الحرة أو بناءً على إقناع سري من أسرى الظفير، عن قسوة حكمه على الظفير. وقالوا: ألم يدفع الظفير الغرامة التي فرضت عليهم وهي 500 بعير؟ فهل من العدل بعد ذلك أن تأخذ خمسة من مشايخهم كأسرى؟ واقتنع الأمير بحججهم وفك أسر الرهائن بعد يومين من أخذهم.

ومثلما هو متوقع أسرع الشيوخ المحررون إلى قبيلتهم عازمين على الانتقام وجمعوا الخيل والجيش لملاحقة سعدون وباغتوه عند جريبيعات جنوب شقراء وهزموه واستردوا ما أُخذ منهم.

(يتبع)

back to top